كتاب سبر

وحدها في القفص

كانت تقف في القفص وحدها بعيدة منزوية،  شابة في الثلاثين تقريباً محجبة وممتلئة تمسك بأصابعها سلك القفص الشائك، عيناها محمرتان من دمع لهيب، رعشة تهز خديها وأطراف أصابعها وبدنها المحموم، تركن بكتفها علي الحائط، تتقلص في حزن خالص، لا أحد معها في قاعة المحكمة سوي المحامين، لا زوج ولا أولاد ولا أقارب ولا أهل.. لا أحد وحيدة تماماً هل تخلوا عنها؟ هجروها؟ أو أبعدوها؟ أم هي التي أخفت عنهم أن اليوم جلسة الحكم فاستيقظت مبكرة «هذا إذا كانت قد نامت» فودعت أطفالها بقبلات مختطفة، وأغلقت وراءها باب بيتها تخشي ألا تعود إليه اليوم، وربما لعشر سنوات قادمة متهمة باختلاس 33 ألف جنيه من عملها كمسئولة دمغة في اتحاد نقابي، في قاعات قريبة في المحكمة كانت جلسات تشهد مليارديرات وراء الأقفاص.

يتوالي الشهود.. رجل في السبعين موظف كبير في الاتحاد نفسه، سأله القاضي أسئلة كثيرة وأجاب إجابات أقل. موظف آخر علامة الصلاة في جبهته لا تخطئها عين، وغيره، الكل يدفع بالتهمة إلى صدر «إلهام».. «إلهام» الموظفة التي كانت سكرتيرة علي الآلة الكاتبة وفجأة أمرها رئيسها بأن تصبح مسئولة عن تسليم الدمغة وبيعها، وقعت على استلام العهدة دون أي محضر جرد، وكانت تسلم دون محضر جرد، تزوجت وأنجبت فأخذت أجازة وضع 50 يومًا وأنجبت مرة أخري، فأخذت أجازة وضع 50 يوماً أخري، غير الأجازات الاعتيادية، في كل مرة تغيب، كانت موظفة أو موظف آخر يأخذ مهمتها دون أي محضر جرد أو تسليم أو تسلم، لا أحد يعرف كم هي الأموال الموجودة ولا حجمها؛ ولا أحد يريد أن يعرف ذلك(!!) المال سائب «سيبان» علي الآخر؛ و«إلهام» موظفة كما هو موجود في الكتاب؛ لا تسأل ولا تفكر ولا تناقش ولا تنظر إلي خطورة أي شيء، البيه الرئيس يعرف أكثر ويتصرف.. لا توجد مشاكل، حتي جاءت المشاكل.

الجهاز المركزي للمحاسبات.. فيه عجز 33 ألف جنيه.

مين يا جدع المسؤول..؟ خلاص هاتوا «إلهام»..

وصارت «إلهام» هي المتهمة.. كانت شهادة الشهود نيئة وهشة ومرتبكة، تشعر أن هناك تدافعاً لإلقاء المسئولية، وأن هناك مؤامرة واضحة كي تذهب «إلهام» إلي الجحيم كي يعرف الآخرون الذهاب إلي السينما.. والنوم.

ترافع محاميان عنها، كانا بارعين يفندان ثغرات الشهود، وعبث المال العام في مصر، لا توجد أي خطوة مالية صحيحة، فوضي العبث بالمال العام التي تروح ضحيتها الآن ياسيادة الرئيس السيدة «إلهام».

السيدة «إلهام» بعد أن قال القاضي الحكم بعد المداولة آخر الجلسة، كانت قد تضعضعت تماماً، حصار الشهود، وقبضة القفص الحديدي، ووحشة الوحدة وخلاء الدنيا ووجوه أطفالها البعيدة..

بعد ساعة كانت القاعة شبه خالية، رحل المحامون (حتي محاميا «إلهام») والدكك الخشبية كلها فارغة إلا من وجوه قليلة عابسة، كنت في الصف الأخير أرى «إلهام» وقد ألصقت وجهها في القفص، روحاً رائحة تماماً، مبددة حتي النهاية، من المؤكد أن قلبها واقف، وأطرافها مثلجة، وضباب أبيض كثيف يملأ عينيها وسكاكين بتقطع في بطنها.. تفتت كبدها.. دخل القاضي يتلو أحكام كل القضايا.. حتي وصل إلي حكم «إلهام» فنطقها خاطفة هامسة: براءة.

آهة عميقة كأنها بركان يعلن عن نفسه صدرت من صدر «إلهام» ثم وقعت من طولها.. سقطت مغشياً عليها.. كنت أريد أن أذهب أربت علي كتفها.. أجعلها تري دمعي في عيني.. لكنني رحلت دون أن أقول لـ«إلهام» مبروك يا أختي.. وها أنا أقولها الآن.