كتاب سبر

نصيحة الحاكم في السر.. سقوطٌ في الفتنة

من ضمن الأفكار التي يحاول وعاظ التخدير السياسي إشاعتها بين المسلمين، أنه لا يجوز المجاهرة في نقد الحاكم أو السلطة، بل لا بد أن تكون النصيحة له في السر، بعيدا عن الآذان والعيون، حتى لا تسقط هيبته من عيون الناس، فيكون ذلك ذريعة للخروج عليه!!

حاولت البحث والتحري والسؤال عن دليل قاطع في ثبوته، صريحٍ في الدلالة على وجوب النصيحة السرية، فلم أعثر عليه، كل ما هناك عبارة عن آثار وأخبار مُتكلَّم فيها، وتُؤول في حال صحتها لصالح النصوص المتواترة والصريحة، وأفعال الصحابة في مشروعية النصيحة العلنية، فهذه الآثار لا ترقى إلى حد الإلزام الشرعي، وتُحمل في أحسن أحوالها على نصيحة السر في الذنوب الشخصية التي يرتكبها الحاكم في خاصة نفسه.

لا أدري كيف تسللت هذه الفكرة المُخدّرة إلى العقل المسلم، وتضخّمت عند البعض بحيث أصبحت في منزلة العقيدة التي ينعقد عليها الولاء والبراء، ويُطلق على مخالفها أحكام التبديع والتفسيق!

إن هذه الفكرة مع ما فيها من تجاوز لتطوّرات النُظم الحديثة في مخاطبة ومحاسبة السلطات، فإن فيها تجنٍّ على الشريعة ومقاصدها، وقفز على نصوص صريحة وصحيحة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق، والصدع بها، لا تقبل مثل هذا التقييد الذي يُفرّغ كلمة الحق من محتواها، وينزع عنها قوتها، وينقلها من الفاعلية، إلى الشكلية .

لقد كان من ضمن بنود عقد البيعة الذي تأسست عليها الدولة الإسلامية الأولى “..أن نقول الحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم”، هكذا بايع الصحابةُ الكرام النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو القائل: “إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم، فقد تُودِّع منهم” (رواه أحمد)، والقائل أيضا: “ألا لا يمنعنّ رجلاً مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا عَلِمَه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر” (رواه أحمد)  والنصوص في ذلك كثيرة.

ولقد فهم الصحابة رضي الله عنهم نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما عاما بعيدا عن تقييده بوجوب السرية، فقد كان الخلفاء الراشدون يُنتَقدون ويُوجّهون وهم على المنابر، ولم يُحرّموا أو يمنعوا ذلك، فهذا كان فهم عموم الناس في العصور المفضّلة، والذي أيده الصحابة، فقد ورد في صحيح مسلم أن مروان بن الحكم – وكان أميرا-  ابتدأ يوم العيد بالخطبة قبل الصلاة -وهذا خلاف المشروع-  فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة –وذلك علنا أمام الناس- فقال مروان: تُرك ما هنالك، فقال الصحابي أبو سعيد الخدري: أمّا هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: “مَنْ رأى منكم منكرا فليغيره بيده.. إلخ”.

هذا الفعل الذي قام به هذا الرجل هو إنكار علني على الأمير، أيّده الصحابي، واعتبره تطبيقا عمليا لوصية النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب تغيير وإنكار المنكر، وقد أحصى الأستاذ الدكتور عبدالكريم الخضر – أستاذ الفقه في جامعة القصيم – أكثر من عشرين دليلا على مشروعية النصيحة العلنية، في بحث له بعنوان: مناصحة الحكام، بين الشرع والنظام.. فليُرجع له. 

إن من طبيعة السلطة أنها تُغري بالاستفراد والاستبداد، فإذا ما ترسخت فكرة النصيحة السرية للحاكم، وتمكنت من العقول، فهذا يعني أن الدرب سيكون فسيحا أمام أي حاكم للتمادي في الانحراف، وسيتحول الشعب إلى كائن مقيّد لسانه إلا من الدعاء لولي الأمر بطول العمر، أما الحديث عن الفساد والانحراف فلا يجوز أن يكون إلا همسا في أذن ولي الأمر، والذي في غالب الأحيان يكون عارفا بهذه الانحرافات، وراضيا عنها.

إن الانحراف إذا ساد وعمّ، وأصبح منهجا مُتّبعا، وسكت الناس عنه في العلن بحجة وجوب السر في إبداء النصيحة، فإن هذا يعني أن المجتمع سيتطبّع على الانحراف، ويتبلّد شعورُ تجاهَه، ويألف وجوده، فيصبح الفساد (ظاهرة صحية!!) وتنشأ الأجيال على التعايش معه؛ لأنه لا أحد ينكره حتى لا يُجرح الحاكم في العلن !! 

إن النصيحة العلنية الصادقة في موضعها تساهم في جعل المجتمع في حالة يقظة دائمة، ويكون شديد الحساسية تجاه أي انحراف يظهر، وبذلك يعطي ضمانة لحماية المجتمع من تغوّل السلطة وتماديها.. أما من يُلزم الأمة بالنصيحة السرية فإنه يقدم الاستبداد للحكام على طبق من ذهب، مكتوب عليه (حلال!) 

‏@AliAlssanad