كتاب سبر

شرعنة الطغيان

كم هي سيئة تلك التبريرات المختلفة التي تأتي مساندة للحملة المسعورة التي تقوم بها السلطة ضد المطالبين برحيل الحكومة، ومحاسبة الفاسدين، لكن أسوأها تلك التبريرات المتدثرة بالشريعة التي تحاول أن تُشرعن امتهان كرامة الناس وانتهاك حرياتهم، والتعدي على حرماتهم. 
إن تلك المبررات تسيء إلى الشرع قبل أن تسيء إلى قائلها، أو إلى الناس الذين أصابتهم السلطة ببطشها وتهورها، فتلك المبررات تحمل جناية على الشريعة، وتقوّلا على الله بغير علم، فلا أسوء من أن يتم ربط تلك الانتهاكات الظالمة بشريعة الله العادلة التي هي “عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه” كما قال ابن القيم.
إن محاولة ربط الاستبداد والجور بشريعة الله هي محاولة لتزييف هذه الشريعة وتزوير أحكامها، وهو من تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
في ظل أجواء القمع التي نعيشها، هناك من يسعى لتوظيف نصوص السمع والطاعة الواردة في الكتاب والسنة توظيفا سيئا، يهدف إلى ترسيخ الاستبداد، وإضفاء الصفة الشرعية على تلك الإجراءات التي فيها امتهان لكرامة الناس، وتقييد لحرياتهم، وانتهاك لحرماتهم، وأن السكوت على تلك التجاوزات والرضى بها من صلب الشريعة، ومما أوصى به الله ورسوله.
ذلك التوظيف السيئ  للنصوص الشرعية فيه قفز على كثير من طرق الاستنباط والاستدلال، والسياقات التي جاءت فيها النصوص، فيتم ذلك التوظيف بطريقة سطحية يسهل تسللها إلى الثقافة الشعبية.
يأتي في هذا استدلال البعض بنصوص السمع والطاعة متجاهلا السياق الظرفي الذي جاء بها، والذي يساعدنا على فهمها وتنزيلها في محلها الصحيح، فهذه النصوص جاءت إلى مجتمعات عربية كانت تأنف من تلقي الأوامر، وتأبى أن تُحكم أو أن تتقيد بأي قانون،  متمثلين منطق الشاعر الذي يقول:
                                 أما الملوك فإنا لا ندين لهم *** حتى يلين لضرس الماضغ الحجرُ

وقد كانت هذه الحالة حاضرة في أذهان شُرّاح السنة وهم يتناولون أحاديث السمع والطاعة، يقول الحافظ ابن حجر “وكانت قريش ومن يليها من العرب لا يعرفون الإمارة، فكانوا يمتنعون عن الأمراء”. لذلك كانت هذه النصوص ضرورية لبناء الدولة عند أناس لم يعرفوا شكل الدولة والتنظيم والقانون، وتأبى نفوسهم كل ذلك.
لذلك يجب فهم هذه النصوص بهذه الروحية التي تعطي اعتبارا لبناء الدولة المحترمة التي يتوافق أفرادها على نظامهم السياسي الذي يكفل لهم حقوقهم ومشاركتهم السياسية، لا بروحية التسليم المطلق، والانقياد الأعمى.
الجناية الشرعية الحاصلة هذه الأيام أن الذين يستدلون بهذه النصوص يأتون بها في سياق يناقض مقصودها، وذلك لتبرير تعسف السلطة، وخروجها على القوانين، وانقلابها على الدساتير والمواثيق، فالقوى الحية في المجتمع تريد أن تحتكم إلى دستور تلتزم به جميع الأطراف كعقد وميثاق ملزم للكل، وتُحكم بقوانين يتساوى الجميع أمامها، أما من يستدلون بهذه النصوص، فإنهم يأتون بها في سياق تبرير خروج السلطة على الدساتير والمواثيق والقوانين، والانقلاب عليها.. فانقلبت الآية بوضع النصوص في غير محلها.
 يأتي الاستدلال أيضا بهذه النصوص دون تقييد أو اشتراط، وكأن الطاعة تكون لذاتها، أو لذات الحاكم دون أي اعتبار آخر، وهذا أمر مخالف لحقيقة تلك النصوص ومقصودها، فحتى الآية التي يرددونها دائما لشرعنة الخنوع، وهي قول الله تعالى {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} لم تأت الطاعة فيها على إطلاقها، ولم تجعل لولاة الأمور طاعة مستقلة عن طاعة الله ورسوله، إنما جعلتها تابعة لها، ومتوقفة عليها، لا مستقلة عنها، ويدل على ذلك، الجزء الآخر من الآية الذي يتحاشى هؤلاء القوم ذكره، وهو قول الله تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله} أي إن تنازعتم مع السلطة، فإن الحَكم هو كتاب الله، وسنة رسوله، ليست السلطة نفسها هي الحكم، وإنما تحتكم الأمة والسلطة لمرجعية واحدة ملزمة يتساوى الطرفان أمامها.
هذا النص يحدد شكل العلاقة بين الأمة و السلطة، وهي علاقة تعاقدية بين طرفين تُحَدد فيها المرجعية التي يُرجع إليها في حال التنازع ، مما يدل على أن العلاقة ليست تبعية مطلقة وطاعة عمياء، وإنما يتخللها تنازع وخلاف، فكان لا بد من تحديد المرجعية الملزمة لجميع الأطرف.
أصحاب التوظيف الاستبدادي للنصوص يتجاهلون هذا الأمر، ويصوّرون العلاقة بين الأمة وحكامها بأنها علاقة تبعية مطلقة، وانقياد، وسمع وطاعة دون قيد أو شرط. 
إن الخلل الواضح عند الراغبين في شرعنة الاستبداد يكمن في المنهج المزدوج في أخذهم بالنصوص، فكما أن هناك نصوصا تحث على السمع والطاعة وتقيدها بـ (الطاعة في المعروف) فإن هناك نصوصا أخرى تحث على تقويم السلطة وعدم السكوت عن باطلها، ورفض الانقياد لها في حال خروجها على الاشتراطات والقيود التي تحد من تغوّلها واستبدادها، وهذا واضح في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {ثم تخلف من بعدهم خلوف، أمراء يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} (رواه مسلم)
وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ستكون أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع…} (رواه مسلم) فمتابعة السلطة عند انحرافها، والرضا بذلك منكر عظيم يجب التصدي له بالوسائل المشروعة.
وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم خطابه للأمة، وأمرها أن تأخذ على يد الظالم، وأن تمنعه من الظلم وتواجهه بظلمه، وإلا فإن العقاب والعذاب سيعمهم جميعا، فقال صلى الله عليه وسلم : {.. ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم ثم يلعنكم كما لعنهم} (رواه أبودواد والترمذي) الأطر هو الرد والثني.
وقال : {إذا هابت أمتي أن تقول للظالم: ياظالم، فقد تودّع منها} (رواه أحمد والحاكم)
فرفع الظلم ومواجهته هو من صميم وظيفة الأمة، وواجبها؛ لأن السكوت على الظلم والجور يؤذن بعموم البلاء على البلاد والعباد، قال صلى الله عليه وسلم: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه} (رواه أبو داود والترمذي)
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم من يُقتل على يد السلطة بسبب قول كلمة الحق بسيد الشهداء، فيكون هو وحمزة بن عبد المطلب سواء، قال صلى الله عليه وسلم: {سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام ظالم فأمره ونهاه فقتله} (رواه الحاكم) وهذا فيه ترغيب واضح على عدم السكوت على منكرات السلطة. 
وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم هذا التوازن بين السمع والطاعة في المعروف ووفق الاشتراطات المتوافق عليها، وبين الحق في تقويم السلطة إذا انحرفت، فهذا أبو بكر الصديق يقول في خطبته الشهيرة عند توليه الخلافة : ” .. وإن أسأت فقوّموني”
كل هذه النصوص تشير إلى أنه ليست هناك طاعة مطلقة، وأن الأمة مأمورة أن تقيم الحق، وأن تحاسب السلطة، وتأخذ على يدها إذا جارت أو جاوزت حدودها.
إن الشريعة عدل كلها ورحمة كلها، فإذا جاء من يريد أن يجعلها نصيرة للظلم، وسندا للجور، فقد أعظم الفرية على الله ورسوله…
بقلم: علي السند
@al_snd