كتاب سبر

الساقي.. محمد سالم

شاهدته لأول مرة رفقة الكاميرا في احتفالية يوم الشعر في جمعية الخريجين ، كنت أرمقه عن بعد ، كان ضوء عدسة الكاميرا التي يحملها يضيئ المكان في كل مرة يلتقط فيها صورة لفعاليات الحفل فتلتفت إليه الأبصار دون أن نشعر ، ضايقني بين إقبال وإدبار أمامي بينما كنت منهمكاً في متابعة الشعر ، فللشعر وحده أتيت لا لشئ آخر ، أحسَّ بمدى الإزعاج الذي سببه لي ، التفت إلي وبادرني بابتسامة واعتذر ، قبلت عذره لأن ابتسامته كانت نعم الشفيع له ، ثم عدت إلى متابعة الشعر من جديد ، وكان كل شاعر مشارك عند فراغه من مشاركته يقدم الشاعر الذي يليه ، حتى جاء الدور على أحد الشعراء فقدم زميله الذي يليه قائلاً : والآن جاء دور الشاعر “محمد سالم” ، وإذا بصاحبي ذي الابتسامة يضع الكاميرا جانباً ويرتقي المنصة ليلقي قصيدة جميلة جداً ، قصيدة تغزل فيها بمعشوقته “تيماء” دون أن يسمي ، نالت قصيدته استحسان الحضور وضجت القاعة بالتصفيق له ، وبعد الأمسية اتجهت صوبه ، صافحته ، شكرته على قصيدته الجميلة ابتسم مرة أخرى وقال لي : لم أستطع أن أسمي معشوقتي ، لكنها بدت لي ولمن يشاركنا ذاك العشق واضحة المعالم يا محمد .
ذاك هو لقائي الأول والأوحد بالمبدع محمد سالم وهو لا يعرفني حتى هذه اللحظة ، لكنني تشرفت بمزاملته في “تويتر” ، فأحسست بأنني أعرفه عن قرب ، فوجدته إنساناً بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، يحمل همّ قضيته كما أفعل أنا ، يحاول التخفيف عن المضطهدين من أبناء جلدته ، يشارك في كل فعالية تدفع بعجلة القضية إلى الأمام ، سخر جميل قصائده لنصرة قضيته ، كان يشجع الجميع ويشد من أزرهم ، كان يثني عليّ بعد كل مقالة يقرؤها عن قضية البدون ، كنت أفرح بثنائه لا لشئ إلا لأنني أعرف ذائقته الجميلة فأعرف بأنني قدمت ما يليق .
“محمد سالم” شاعر جميل ، ومغرد مميز ، وأب رائع لورود جميلة تتغنى صباح مساء بكتاب الله عز وجل حفظاً وتلاوة ، فحق له أن يرفع بهن رأساً كحافظات لكتاب الله ، وحق لهن أن يرفعن به رأساً كأب وشاعرٍ مميز ، وإنسان يمارس إنسانيته بلا تكلف .
محمد سالم يقبع الآن خلف قضبان السجن في متر مربع ، لأنه لم يرتكب ذنباً ! ، لا تستغربوا … فهو مسجون لأنه لم يرتكب ذنباً فهذا هو قدره أن يسجن حين يكون الكثيرون ممن يرتكبون الذنوب طلقاء خلف أسوار السجون ، وكل ما فعله هو أنه طالب بحقه بطريقة يراها هو مشروعة ويقره عليها الدستور الذي يرتضونه بينهم حكماً ، ولكن الآخرين ضاقوا ذرعاً به وبمن معه ، ونسوا أن محمداً ومن معه ضاقوا ذرعاً أيضاً بالممارسات اللاإنسانية التي تمارس في حقهم ، وعلموا أنه لا حيلة للمضطر إلا ركوب الأسنة ، فخرجوا وخرج محمد لكنه لم يعد ، وربما يكون هو من اختار عدم العودة إلا برأس مرفوع .
قبل أيام قلائل كرمت وردة من ورود “محمد سالم” لإتمامها حفظ أحد عشر جزءاً من كتاب الله عز وجل ، حضرت الوردة ، وحضر القرآن المحفوظ في صدرها ، وحضر الجميع ، وغُيِّب “محمد سالم” الساقي لتلك الوردة  الجميلة ، ليحرموا وردته من اكتمال فرحتها بوجود أبيها ، وليحرموا أباها من أن يكحل عينه برؤيتها ترفرف في رحاب القرآن .
في جمعة (لدي حلم) قام أطفال البدون بتوزيع الورود على قياديي وزارة الداخلية المتواجدين في ساحة الحرية في تيماء ، إحدى ورود محمد سالم كانت توزع الورود ، لكنها لم تكن تعلم أنها تقدم الوردة لمن سيعتقل الساقي ! .
سيخرج محمد من معتقله لأنه دخله بلاذنب ، وحتماً سيخرج منه ليخبرنا الحقيقة ، وليعلم الجميع حينها ، أيّنا ذو ذنب ، فمحمد ليس إلا واحد من آلاف يعانون ويقاسون ، ويرمون في بحر المعاناة ويقال لهم : حذارِ أن تبتلّوا ، وماهو إلا نموذج أراد هو بنفسه أن يسلط الضوء عليه ليعلم الجميع أن في الزوايا المظلمة أنين جرحى لا يعيه إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، فشكراً محمد لأنك أثبت لهم المقولة التي تقول : أنا هنا أعاني .. إذن أنا بدون !ر