بورتريه

بورتريه
محمد حسنين هيكل “على الميعاد” و”موت” الصحافة الورقية..!

قد يكون من أولئك الذين يثيرون الجدل ومن الذين يختلف الناس فيهم ومعهم .. ولكن الحقيقة هي أنه شق طريقه بثبات ليكون أهم ظاهرة إعلامية عربية تربعت على عرش الصحافة العربية لزمن طويل وكان لاينازعه فيه منازع .. كان أهم صحفي عربي عرفه القرن العشرون على الاطلاق .. والمسافة بينه وبين من يليه في الساحة الصحفية العربية كبيرة جدا الى درجة أنه إن التفت خلفه ليرى أقرب الاعلاميين العرب الى موقعه لما وجد أحدا في الأفق .. 
كوّن مدرسة وظاهرة اعلامية تستحق الدراسة والاهتمام .. وفي كل الساحة العربية الإعلامية لم يكن هناك ولزمن طويل من يستحق التبجيل والاحترام في بلاط “صاحبة الجلالة” الصحافة مثل محمد حسنين هيكل.. ظِلال “عبد الناصر”.. و”ضمير” مصر العربي بهزائمه وانتصاراته.. لم يكن مجرد صحفي بل مفكرا ومؤرخا ومثقفا بالفلسفة والسياسة وكان يكتب وفي كلامه سلاسل التاريخ والجغرافيا والاقتصاد مع شيء من اللغة في كناياتها واستعاراتها.. تربع “هيكل” بإرثه الناصري وتجربته الغنية وشبكة علاقاته الطويلة والمعقدة مع شخصيات العالم على عرش لم يجرؤ أحد على منافسته عليه أو ترشيح نفسه لخلافته أو تسميته وليا للعهد.
كتب ومؤلفات ومقالات ترجمت لأكثر من 30 لغة.. علاقات مقربة مع ساسة ورؤساء وقادة.. أحداث وتغطيات وتحقيقات وحوارات وتحليلات صحفية بدأت منذ الحرب العالمية الثانية واستمرت لسبعة عقود رسم  فيها المشهد السياسى  بقلمه ورؤيته السياسية  التي  كان يطلق  لها العنان، غير مبال بما  يكال له  من اتهامات  فى كثير من  الأوقات.. كل هذا وأكثر أبرزته على صفحاتها كثير من وسائل الإعلام فور وفاته أمس. 
تعرّف إلى شخصيات لعبت أدواراً تاريخية، ودُعي إلى ترؤس مجلس التحرير في صحف عالمية تقديراً لمكانته. وبين حرب فلسطين 1948 التي تقرّب خلالها لجمال عبد الناصر.. إلى مؤتمر باندونغ بقادته الكبار ولقاءاته مع خروشوف وتيتو وكاسترو وشارل ديغول وغيرهم كثير، فضلاً عن بعض صنّاع القرار في الوطن العربي كحافظ الأسد وياسر عرفات وبن بله وبومدين والقذافي، أتيحت له الفرصة إقليميا للقاء “النقيضين” شاه إيران والخميني.
أبرز جوانب تأثيره على الصحافة العربية كان بتحويلها من وسيلة إخبار وتعليقات سريعة وحوارات مع المسؤولين إلى منتدى ثقافي رفيع المستوى حتى أنه جمع في عدد واحد من صحيفة “الأهرام” كتابا كبارا من وزن توفيق الحكيم ولويس عوض وصلاح عبدالصبور ونجيب محفوظ وغيرهم حتى وصل قراء هذا العدد نهاية الستينات إلى حافة المليون قارئ.
لا يتعب “هيكل” من القراءة من أجل أن يعرف أكثر، وكان في بيته في القاهرة، أو في مزرعته بقرية برقاش، قرب القناطر الخيرية، كما في بيته الصيفي سواء على شاطئ المعمورة أو في الغردقة، “مكتبات” عدة فيها النفيس من كتب التاريخ ومذكرات بعض من أسهموا في صنع البعض من محطاته أو تحولاته.
قال عنه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق: “تستطيع أن تعرف من خلاله كل شيء عن الشرق الأوسط لو التقيته”، واعتبره المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور “الشخصية الأكثر إثارة للاهتمام في مصر المُعاصرة”. 
مؤرخ لمرحلة لعلها الأخطر في التاريخ العربي الحديث، بشخصياتها المؤثرة، المميز منها والمثير للدهشة أو الاستغراب.. وبالتأكيد فإن المكتبة التي أنتجها محمد حسنين هيكل عن السقوط الذريع من التاريخ ستشكل ضوءاً كاشفاً في الطريق إلى المستقبل.
هيكل في نظر كثيرين يستحق لقب “المفكر العربي” فهو رائد وظاهرة صارت عزيزة على قلوب الكثير من الصحفيين  ومصدر إلهام وفخر لهم.. فهو يحمل في حقائبه قطعا كاملة من القرن العشرين وقصاصات من التاريخ.. وهو خزان من خزانات الحقيقة.. وإن اختلفنا معه فالاختلاف مع الكبار لا يعني أنهم على خطأ وأننا على صواب.. ولا يعني أننا أدرى منهم في القضايا الشائكة.. ولا يجوز استلال السيوف والسكاكين والسياط والمشارط في وجوههم.. ولا يعني أن نفتح خزائنهم وننثر أغراضهم وخصوصياتهم.. ونبعثر دفاترهم وأيامهم على الأرصفة.. ونفتش عن ارتعاش العمر في أياديهم وثقوب الذاكرة في حديثهم.. هذا الانفعال يعني ضعفا وقلقا ونزقا.. وهو لا يقنع وربما يدل على توتر وتعصب أعمى لوجهة النظر والرأي.. وعندما يسود التعصب يسقط الرأي.. ويسقط المجتمع.. وتسقط قوة المنطق.. وإذا سقطت قوة المنطق.. صار أحدنا إما قاتلا أو مقتولا.. ولكن اختلاف الكبار والمرموقين معنا لا يعني أيضا أننا على خطأ.. “هيكل” من بني البشر.. والبشر يصيبون ويُخطئون في توقعاتهم وتحليلاتهم وقراءاتهم.. و”هيكل” ليس “جهينة” ليكون عنده دائما الخبر اليقين.
رحل “هيكل”.. ورحيله جاء في وقت تشير المعطيات فيه إلى اقتراب ساعة رحيل “الصحافة الورقية” إلى غير رجعة.