أقلامهم

عبدالوهاب بدرخان : إضعاف تركيا كهدف رئيسي للمحاولة الانقلابية

تبقى الصدمة الأهم في الحدث التركي أن الجيش لم يواكب المجتمع في تغيّره العميق، وأن ما ظهر من اختراقات في أعلى مراتب الجيش وبعض أجهزة الأمن لا بدّ أن يؤرّق أي سلطة.

ومن الواضح الآن أن ما جمع عسكريي المحاولة الانقلابية صلة ذات طابع حزبي أكثر مما هي رفقة السلاح، وأنهم تعامَوا عن أمور عدة، لعل أولها، أن عهود الانقلابات السابقة خلّفت إرثاً سيئاً لا تشجّع غالبية الأتراك على استعادتها.

وثانيها أن انقلابهم لا يمكن أن يصحّح ذلك الإرث، فلا عموميّات بيانهم المذاع كانت مقنعة ولا ممارساتهم المباشرة في الشارع سعت إلى استقطاب مؤيدين. وثالثها أن تركيا تغيّرت ولم تعد إعادة إنتاج الحقبة العسكرية ممكنة أو مفيدة.

في لحظة ثبوت فشل الانقلاب، بدأت أصوات في الخارج تحذّر مما بعده، وفيما كانت حكومة أنقرة تواجه حقيقة الاختراق العميق للجيش، راحت عواصم أوروبية عدة تطالبها باحترام مبادئ «دولة القانون»، وترى أن هناك «مبالغة» في الاعتقالات، بل إنها وقفت جميعاً ضد التوجّه إلى إعادة العمل بعقوبة الإعدام.

عدا أن تلك العواصم لم تتعرّض لتجربة مماثلة بخطورتها، فإنها اتخذت الحدث ذريعة للتهديد بأن تركيا «لا مكان لها» في الاتحاد الأوروبي. والواقع أن هذا الاتحاد لم يسعَ سابقاً إلى ضم تركيا تحديداً لأن حكمها كان عسكرياً واقتصادها غير منظّم وآيل للانهيار، ثم إنه طوال أربعة عشر عاماً من حكم «حزب العدالة والتنمية» ضاعف العراقيل أمام ضمها.

وكلّما ضغطت أنقرة صار حكوميون أوروبيون أقل تردّداً وأكثر صراحة في القول بأن تركيا لن تكون يوماً في الاتحاد، وكانوا في البداية يشيرون إلى المسألة الكردية باعتبارها شاهداً على عدم اكتمال الديمقراطية، ثم راحوا يشيرون علناً وسرّاً إلى كون تركيا «بلداً مسلماً»، ثم حسمت بعض العواصم موقفها نهائياً عام 2010 بعد الخلاف التركي- الإسرائيلي.

استفادت تركيا بمقدار ما استطاعت من ترشّحها للعضوية الأوروبية، لكن الأهم عندها كانت علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة وعضويتها في حلف شمال الأطلسي. هاتان الجهتان لم تشترطا سابقاً أن يكون النظام التركي ديمقراطياً للتعامل معه، ثم وجدتا في الاستقرار السياسي والاقتصادي للتجربة الديمقراطية منذ 2002 إضافة إيجابية تعزز الدور الإقليمي لتركيا.

لكن واشنطن التي نسّقت مع أنقرة في بدايات الأزمة السورية ما لبثت أن خذلتها، إذ غضّت النظر ومعها «الناتو» عن الدور الإيراني في سوريا، ثم عن اجتذاب النظامين السوري والإيراني الجماعات الإرهابية، ولم يدعما أيّاً من خطط تركيا لإنشاء مناطق عازلة أو آمنة وتركاها تتحمّل الأعباء، حتى بعد تفجّر الخلاف بينها وبين روسيا.

في مقابل إضعاف تركيا وعزلها إلى حدٍّ ما، تنامى الدعم الأميركي، ثم الروسي، لأكراد سوريا والإقليم الذي يريدون إنشاءه على الشريط الحدودي، وبشيء من التواصل مع مناطق الأكراد في تركيا.

وفي اللحظة التي كانت تركيا تحتاج فيها إلى كل قوّتها وعافيتها لمواجهة تقسيم دول المنطقة وإعادة رسم جغرافياتها -تصحيحاً لـ «سايكس- بيكو»!- جاءت المحاولة الانقلابية لتربكها، وإذ شكّل «الكيان الموازي» أداتها إلا أنه ما كان ليتحكّم أبداً بأهدافها. وإذا أغرقت نفسها تركيا في تداعيات الانقلاب فقد يسهل ابتزازها في صفقات التقسيم.