منوعات

غزة.. قصة مسيحي كرّس حياته لإيصال صديقه الكفيف إلى المسجد

يومياً، وفي كل موعد صلاة، يشاهد المارة في شارع مستشفى الشفاء، غرب مدينة غزة، فلسطينياً في الـ50 من عمره، يقف أمام مسجد البورنو الملاصق للمستشفى. وفور انتهاء الصلاة يصعد سلالم المسجد الخارجية، حاملاً بيده حذاء ليس بحذائه، فيما يتكئ على يده الأخرى كفيف، يساعده في الخروج، ليوصله بعد ذلك إلى منزله.

المثير للانتباه في هذه الحكاية، التي تتكرر يومياً، أن الرجل مسيحي، وقد وهب حياته لمرافقة صديقه وجاره المسلم فاقد البصر في جميع الأوقات، وإلى جميع الأماكن التي يقصدها، سواء السوق، أو التنزه على شاطئ البحر، والمتنزهات الأخرى، هرباً من الحر وأزمة انقطاع الكهرباء التي يعانيها القطاع. «الإمارات اليوم» رافقت كمال ترزي هو وصديقه الضرير، الطبيب حاتم خريس (50 عاماً)، حيث ينتظره في كل يوم عند باب منزله ليصحبه إلى المسجد، ويأخذ بيده إلى كل مكان ينوي الوصول إليه، في رحلة تتكرر يومياً منذ خمس سنوات، وذلك عندما فقد خريس بصره أثناء تركيبه وصفة طبية. يقول ترزي إن «صداقة متينة تربطني بالطبيب خريس منذ 15 عاماً، لم أفارقه خلالها يوماً واحداً، فكنت أعيش معه لحظات الفرح والألم وكأنه شقيقي».

بعد إصابة الطبيب خريس، وفقدانه البصر، انقلبت حياته رأساً على عقب، فبعد أن كان يعالج المرضى ويعد لهم الوصفات الطبية، أصبح بحاجة إلى من يساعده ليقضي احتياجاته اليومية.

جدران المسجد والكنيسة واحدة
تجسد حكاية التضحية والإخلاص هذه، معاني التسامح والمحبة بين المسيحيين والمسلمين في غزة، وعموم فلسطين، حيث يجاورون بعضهم بعضاً، فيما تلاصق الكنائس المساجد، لتختلط أجراسها بالأذان.
وفي البلدة القديمة وسط مدينة غزة، يجاور مسجدا العمري وهاشم بن عبد مناف كنيسة دير اللاتين، فيما يفصل حائط واحد كنيسة الأرثوذكس عن مسجد كاتب ولاية في المنطقة ذاتها، التي تقطن بها أغلب العائلات المسيحية بجوار المسلمين.

كفيف

ويتابع ترزي «صديقي حاتم اعتاد منذ الصغر تأدية صلاة الجماعة في المسجد يومياً، لكن بعد إصابته منذ خمسة أعوام لم يتمكن من ذلك، بفعل انشغال من حوله بأعمالهم، وعندما كان يسمع صوت الأذان وأنا جالس عنده يبدأ بالبكاء، فقررت مساعدته في الوصول إلى المسجد، وتأدية صلاة الجماعة». ويضيف «بعد خروجه من المسجد في أول يوم ساعدته فيه ارتسمت ملامح السرور على وجهه، فأخبرته أني سأساعده في الذهاب إلى المسجد باستمرار، ففرح عند سماع ذلك، وكأنه عثر على شيء فقده منذ زمن طويل».

إخلاص وتضحية

لم تقتصر مرافقة ترزي لصديقه إلى المسجد لتأدية الصلوات الخمس، حيث يصطحبه في ساعات الصباح الباكر إلى السوق، لمساعدته في شراء احتياجاته الخاصة، التي اعتاد شراءها بنفسه قبل فقدان بصره. وبعد الانتهاء من التسوق، يذهب إلى بيت صديقه الكفيف ويجلسان معاً، فيما يقرأ له عناوين الصحف.

ترزي موظف متقاعد، يتقاضى راتب أسير محرر، بعد أن قضى في الاعتقال داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي سبعة أعوام، نظراً إلى نشاطه السياسي، ليخرج من خلف القضبان، ويفرج عنه عام 1994 ضمن اتفاقية أوسلو، قبل انقضاء مدة محكوميته وهي 10 سنوات.

إخلاص ترزي لصديقه خريس لا يقتصر على مرافقته له طوال الوقت، واصطحابه إلى المسجد وغيره من الأماكن، بل إن ترزي مستعد ليضحي بعينه إلى جاره المسلم، ليتمكن من الرؤية مجدداً.

وعن ذلك يقول ترزي «في حال أجمع خبراء عالميون في مجال العيون أن عملية زراعة عين لصديقي ستكون ناجحة بنسبة 100%، فأنا على استعداد للتبرع له بإحدى عينَي، وأبقى بعين واحدة، في سبيل أن يبصر صديقي، ويرى أبناءه الخمسة بعد حرمانه من رؤيتهم».

كفيف غزة

تعايش

مع حلول ساعات المساء، يهم ترزي لاصطحاب صديقه الكفيف إلى الأماكن الترفيهية، سواء على كورنيش البحر في منطقة الشيخ عجلين، غرب مدينة غزة، أو إلى متنزه بلدية غزة، بعيداً عن أزمات غزة التي تزاحم حياتهما في كل وقت.

ويقول خريس «إنني أفضل مرافقة صديقه ترزي، حيث أشعر معه بارتياح كبير، إضافة إلى إخلاصه النادر من نوعه». ويضيف «في بداية إصابتي شعرت بالضيق والحزن لعدم قدرتي على ممارسة حياتي اليومية بشكل طبيعي كما كنت في السابق، لكن كل ذلك زال بعد أن وهب صديقي المسيحي وقته لمساعدتي في الوصول إلى المسجد، وقضاء أغلب الأوقات برفقتي».

وبحسب خريس، فإن إخلاص صديقه المسيحي انعكاس طبيعي لحالة التآخي بين أبناء الشعب الواحد، بغض النظر عن الدين. ويقول إن «الفلسطيني المسيحي لا يستطيع أن ينأى بنفسه بعيداً عن الواقع الذي يعيشه كل مواطن في غزة، خصوصاً في ظل الأزمات المادية والمعيشية التي لا تفرق بين مسيحي ومسلم، وكلاهما يرزح تحت وطأة محتل واحد لا يفرق بينهما».