أقلامهم

د. آمال موسى: الإعلام والتلاعب بالعقول

صحيح أنه لا أحد اليوم يستطيع الاستغناء عن وسائل الإعلام؛ فالعلاقة تحكمها التبعية التي تتفاوت من شخص إلى آخر.

وموضوعيا، فإن علاقة التبعية المشار إليها لم تتشكل من فراغ، بل إنها تستند إلى مقاربة وظيفية لدور وسائل الإعلام في حياة الأفراد والمجتمع في الوقت الراهن: فهي من دون منازع مصدر للمعلومات والأخبار، كما أنها تساعد على الاندماج الاجتماعي داخل البيئة الاجتماعية. علاوة على كونها تمثل سوسيولوجيا مؤسسة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية الثانوية. مع العلم أن تصنيف وسائل الإعلام في قائمة الأنساق الفرعية الثانوية يبدو لنا أنه يحتاج اليوم إلى مراجعة معمقة؛ وذلك بالنظر إلى الأهمية المتزايدة التي أصبحت تمتاز بها وسائل الاتصال والإعلام في المعيش الاجتماعي اليومي.

أما في علوم الاتصال والإعلام، فإن للوسائل الإعلام وظائف ثلاث، تتمثل في الإخبار والتثقيف والترفيه. مع الأخذ بعين الاعتبار التغييرات التي طرأت على هذه المقاربة الكلاسيكية لوظائف الإعلام، حيث بحكم الانفجار الهائل لعدد الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية، فإن الأخبار أصبحت مُشاعة ولم يعد الخبر مجال تميز لوسيلة إعلام واحدة.
لذلك؛ فإن التميز إعلاميا اليوم انتقل من مجال الإخبار والسبق الصحافي إلى مجال صحافة الرأي والتحليل، باعتبار أن مقالات وبرامج الرأي والتحليل الإخباري تيسر للناس فهم ما يجري واستيعاب خلفيته ومختلف أبعاده، ومن ثمة يستطيع الفرد تحديد موقفه.
ولكن هل فعلا وسائل الإعلام اليوم هي ذات دور وظيفي محض، وعامل مساعد للفرد في واقع عالمي أصبح أشبه ما يكون بالقرية بحكم اختزال وسائل الإعلام للجغرافيا وللزمن؟ وإلى أي حدّ تسهم في إفهامنا وتفسير ما يعرفه العالم من أحداث وظواهر وحسابات وتوترات؟
طبعا، لا شك في أن العلاقة بوسائل الإعلام، أصبحت عضوية، ولكن المُهيمن على هذه العلاقة العضوية التأثيرات السلبية لوسائل الإعلام، حتى أنها أصبحت ضد وظائفها المعروفة.
فوسائل الإعلام أضحت أدوات للهيمنة السياسية والآيديولوجية والاقتصادية. والعلاقات بين وسائل الإعلام بعيدة عن التعاون والتنافس، وأقرب ما تكون إلى الصراع: صراع من أجل احتكار المعنى والصورة والرمز. ولعل القنوات الدينية خير دليل على ما ذهبنا إليه، حيث السعي حثيثا وقويا من أجل التأثير في العقول والهيمنة الآيديولوجية. وليس من قبيل الصدفة أن يتضاعف عدد القنوات الدينية في الفضاء الاتصالي العربي سنة 2012 ثلاث مرات، وأن يتزامن ذلك مع عودة الإسلام السياسي إلى المشاركة السياسية في بلدان الثورات العربية، ونقصد تونس ومصر.
ونعتقد أن أفضل من قام بالتوصيف الموضوعي النقدي لوسائل الإعلام، هو المفكر السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو، وذلك في كتابه «حول التلفزيون»؛ إذ اتهم التلفزيون بالتلاعب بالعقول.
وإذا ما أمعنا النظر والعقل في برامج التحليل وزوايا معالجة الأحداث، سنرى أننا أمام صرع أجندات وآيديولوجيات. وهو صراع كثيرا ما تغيب عنه قيمة الموضوعية، فنجد أن كل وسيلة إعلامية تقريبا تحاول تحديد الحقيقة الاجتماعية التي تخدم مصالحها. والمشكل أن المتلقي هو ضحية هذا الصراع وهذا التلاعب، حيث يصبح الواقع أمامه أكثر غموضا وتعقيدا، في الوقت الذي تدعي فيه وسائل الإعلام حرصها على تفسير ما يجري وإزالة الغموض عنه كي يتسنى للمتلقي اتخاذ الموقف الذي يناسبه.
المشكلة الأخرى، أن هذه التأثيرات السلبية تُطيح بفكرة حرية الإعلام واستقلاليته، فإذا بها أكذوبة متداولة.
وها نحن اليوم على المستوى العالمي هناك الآلاف من الصحف والإذاعات والقنوات، ولكن من منا يستطيع أن يجزم أنه فهم جيدا مسألة تنظيم داعش ومن يقف وراءها ومن يحركها؟ من منا يستطيع أن يفسر لنا بمنتهى الوضوح والإقناع، ملابسات الثورة التونسية، وما يحصل اليوم في سوريا؟
معلومات تتدفق كل لحظة وتنتشر وتصل، ولكن دون فهم واستيعاب وقدرة على الربط. وبرامج كل ساعة تعج بالخبراء والمحللين وأصحاب القرار، ولكن الرؤية تبقى ضبابية والأسئلة موجهة، والضيوف في أغلب الأحيان يتم اختيارهم على المقاس الآيديولوجي والمصلحي.
وتتضاعف عملية التلاعب بالعقول في الفضاء الإعلامي العربي؛ لأن غالبية وسائل الإعلام ما زالت في علاقة تبعية مع السياسي والديني ولم تتحول وسائل الإعلام، خصوصا المحلية منها إلى مؤسسات مستقلة اقتصاديا. لذلك؛ فهي رهينة صاحب رأس المال والتحالفات الاقتصادية السياسية.
كما تتضاعف أيضا تأثيرات وسائل الإعلام في مجتمعاتنا؛ لأن العقول نفسها تعرف انفصاما وترددا بين قيم ومرجعيات مختلفة فتزيد وسائل الإعلام من حدة هذه المسألة، بما تمارسه من تلاعب بالعقول والمواقف بهدف التأثير في الرأي العام.
إن وسائل الإعلام سواء قاربناها وظيفيا أو نقديا، فإننا نستنتج قوة دورها وتأثيرها. لذلك؛ فإن مجتمعاتنا لن تقوم لها قائمة بمعزل عن وسائل إعلام تقرر احترام العقول ومقاطعة التلاعب بها.

  • كاتبة وشاعرة تونسية