عربي وعالمي

مسموح به في ألمانيا.. توجيه التهديدات للسياسيين الأتراك

عدم فرض السلطات الألمانية، أي قيود على ما تنشره صحيفة “السياسة الحرة الجديدة” من مواد تمجد العنف والهجمات ضد تركيا، وتستهدف بشكل واضح السياسيين الأتراك، يثير جملة تساؤلات حول موقف ألمانيا من الإرهاب بشكل عام، وطريقة تعاملها مع منظمة “بي كا كا” الإرهابية بشكل خاص.

وكانت “بي كا كا” اختطفت ثم قتلت، رئيس جناح الشباب لفرع حزب العدالة والتنمية في منطقة “بيت الشباب” في ولاية “شيرناق” جنوب شرقي تركيا، في أغسطس/ أب الماضي، وفي 14 سبتمبر/ أيلول الجاري اغتال إرهابيون من بي كا كا، أحمد بوداق، مرشح حزب العدالة والتنمية في انتخابات 1 نوفمبر/ تشرين ثاني 2015 النيابية، أمام منزله في ولاية هكاري المجاورة.

ونشرت صحيفة “السياسة الحرة الجديدة”، المرتبطة بمنظمة “بي كا كا” الإرهابية، الحادثين بمانشيت يحمل عبارة “هدفنا أعضاء العدالة والتنمية”، منسوبًا إلى منظمة بي كا كا الإرهابية، بما يحمله هذا المانشيت من تهديد صريح بمواصلة تصفية السياسيين في تركيا، وإيحاء بأن هاتين الجريمتين سيكون لهما توابعهما. ورغم ردود الفعل المعترضة من الرأي العام، لم يتم اتخاذ أي إجراء حيال الصحيفة، بدعوى حرية الصحافة والتعبير، وهو ما فتح الطريق أمام القول بانتهاج ألمانيا معايير مزدوجة فيما يتعلق بالإرهاب.

ولدى ألمانيا، الحليف القوي لتركيا في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية، تاريخ طويل مليء بالمتناقضات، فيما يتعلق بموقفها تجاه منظمة بي كا كا، والأعمال الإرهابية التي تقوم بها في تركيا.

ووفقا للمكتب الاتحادي لحماية الدستور، وهو بمثابة دائرة الاستخبارات الداخلية الألمانية، تنشط بي كا كا في ألمانيا منذ عام 1984، وفي 26 نوفمبر/ تشرين ثاني 1993، اتخذ البرلمان الألماني قرارا مدعوما من المستشار في ذلك الحين، هلمت كول، بوضع منظمة بي كا كا على قائمة الإرهاب،. وجاء القرار بعد اقتحام مجموعة إرهابية، للقنصلية التركية في ميونخ في 24 يونيو/ حزيران 1993، واحتجازهم 20 شخصا رهينة.

ومنذ ذلك التاريخ أصبحت جميع أنشطة منظمة بي كا كا محظورة في ألمانيا، وباتت أنشطة جميع الأشخاص والهيئات ذات العلاقة بالمنظمة، تدخل في إطار الإرهاب، إلا أن هذا وضع عائقا نظريا فقط أمام أنشطة المنظمة في ألمانيا، واستمرت بي كا كا في تطوير هياكلها الأيدلوجية والسياسية والاقتصادية هناك.

وبعد مرور أقل من عامين على وضع بي كا كا على قائمة الإرهاب في ألمانيا، بدأ في أغسطس/ أب 1995، إصدار صحيفة “السياسية الحرة”، التي عرفت حتى لدى الاستخبارات الألمانية بكونها مرتبطة بـ “بي كا كا”، وكانت تعد وسيلة الدعاية السياسية للمنظمة.

وبعد عشر سنوات في سبتمبر/ أيلول 2005، أغلقت وزارة الداخلية الألمانية، الصحيفة، وحظرتها بسبب ارتباطها بالمنظمة الإرهابية، إلا أنه بعد ثلاثة أشهر فقط بدأت صحيفة “السياسة الحرة الجديدة” في الصدور، ولا تزال تصدر حتى الآن رغم أن التقارير الرسمية للمكتب الاتحادي لحماية الدستور تعتبرها جهاز الدعاية السياسية لمنظمة بي كا كا.

وكما لم يتأثر النشاط الدعائي لـ “بي كا كا” في ألمانيا بحظرها ووضعها على قائمة الإرهاب، فإن الحظر لم يؤثر كذلك على النشاط الاقتصادي للمنظمة، التي تستخدم أذرعها الاقتصادية في ألمانيا، لشرعنة الأموال التي تحصل عليها بطرق غير مشروعة مثل تجارة السلاح والمخدرات وتهريب البشر، والتي تعد مصادر الدخل الأساسية للمنظمة.

وتتعدد الأمثلة على السياسة المزدوجة على تتبعها ألمانيا عندما يتعلق الأمر بمنظمة “بي كا كا” ومنها؛ إلقاء “مراد قره يلان” الذي يعد قائد المنظمة، كلمة عبر البث المباشر، خلال مهرجان الثقافة الكردية التاسع عشر، الذي نظم في مدينة كولونيا الألمانية في سبتمبر/ أيلول 2011، وإجراء لقاء مع “جميل بايق”، رئيس المجلس التنفيذي لـ “ك ج ك” الذراع التنفيذي لبي كا كا في المدن، في قناة التلفزيون الأولي في ألمانيا ARD، اعتذر فيه من الشعب الألماني عن أحداث العنف التي جرت في بلادهم في تسعينات القرن العشرين، متعهدا بعدم تكرارها، هذا بالإضافة إلى رفض السلطات الألمانية طلبات تركيا تسليمها إرهابيي “بي كا كا” المقيمين في أراضيها، معتبرة إياهم “مطلوبين سياسيين” وليس إرهابيين.

“بي كا كا” تقوم بفعاليات علنية في أوروبا

الرأي العام الأوروبي بات على قناعة تامة بأنّ قيادات بلدانه تتعامل بمعايير مختلفة مع العديد من المنظمات الإرهابية، رغم النداءات المتكررة بضرورة التنسيق لمكافحة الإرهاب في كافة أنحاء العالم، في ظل تعاظم هذه الهجمات في عموم أوروبا.

وبات من الطبيعي أنّ تخالف أوروبا قيمها ومبادئها المعلنة في الديمقراطية والعدالة ومكافحة الإرهاب، من خلال غض الطرف عن فعاليات أنصار منظمة “بي كا كا” المُدرجة على قائمة المنظمات الإرهابية في الاتحاد الأوروبي.

ومعلوم للجميع أنّ أنصار المنظمة الإرهابية ينشطون في عموم أوروبا وخاصة في فرنسا وألمانيا وبلجيكا والنرويج والنمسا والسويد والدنمارك وبريطانيا، وإنّ حماية الساسة الأوروبيين لمنتسبي المنظمات الإرهابية المقيمين داخل أراضيهم عبر إطلاق اسم “مطلوبين سياسيين” عليهم، يدل بما لا يدع مجالاً للشك بأنّهم لا يؤمنون بشمولية مفهوم الإرهاب، بل يستخدمونه بطرق ملتوية لتحقيق مصالحهم السياسية.

وعلى ضوء هذه الحقائق، فمن غير الخطأ أن نطرح سؤالاً حول ما إذا كانت ألمانيا تعتبر منظمة “بي كا كا” الإرهابية تهديداً لامنها الداخلي، ولا ننسى أنّ برلين حظرت نشاطات المنظمة المذكورة في عام 1993، لقيامها بعمليات إرهابية داخل المدن الألمانية، إلّا أنّ قيادات “بي كا كا” قدّمت اعتذاراً فيما بعد للحكومة الألمانية ووعدتها بالكف عن مثل هذه العمليات، وقامت القيادة الألمانية عقب هذه الخطوة بإرغام المنظمة على إعادة هيكليتها بشكل يتناسب مع المصالح السياسية الخارجية لألمانيا، وخاصة ضدّ تركيا.

وتتبع ألمانيا في مكافحة المنظمات الإرهابية طريقة تقسيم هذه المنظمات إلى قسمين، أحدهما المنظمات التي تشكل تهديداً لأمنها، وثانيهما المنظمات التي لا تشكل تهديداً لها، وهذا المفهوم يتطابق مع عبارة متداولة على نطاق واسع في العلم السياسي وهي “إرهابي بالنسبة لي، ومناضل من أجل الحرية بالنسبة لآخرين”.

وبشكل عام هناك محاولات لإضفاء صفة الشرعية على فعاليات وممارسات منظمة “بي كا كا” الإرهابية في ألمانيا تحت ذريعة حرية الرأي والتعبير، ويتعمد الساسة الألمان عن طريق وسائل الإعلام إيهام المجتمع بأنّ منظمة بي كا كا ليست إرهابية بل هي حزب سياسي يسعى بطرق شرعية للحصول على حقوقه الإنسانية والسياسية.

ومن البديهي أنّ مواقف الحكومة الألمانية الهزيلة تجاه هذه المنظمة الإرهابية، ستشكل نقطة تحول هامة في علاقاتها مع تركيا.

والخلاصة يمكننا القول بأنّ دول الاتحاد الأوروبي التي تتعرض لعمليات إرهابية مكثفة خلال الأعوام الأخيرة، تقوم بتعريف الإرهاب حسب مصالحها العملية، رغم اجماعها على التعريف النظري للإرهاب.

ومع الأخذ بعين الاعتبار الأضرار التي تخلفها العمليات الإرهابية على النظام العالمي، والحروب التي تتسبب بها المنظمات الإرهابية، يمكننا القول إنّ على أوروبا أن تتخلّى عن مواقفها المزدوجة حيال الإرهابيين، وعلى الأوروبيين أن يعلموا أنهم سيبقون هدفاً للمنظمات الإرهابية، لكن للأسف فإنّ النظام السياسي العالم ما زال بعيداً عن هذه الحقيقة، ومع استمرار تجاهل هذه الحقيقة، فإنه من المتوقع أن تُستخدم المنظمات الإرهابية لفترة طويلة، كأداة بيد السياسيين من أجل تحقيق مآربهم.