أقلامهم

أقلامهم | فهد عافت يكتب عن: النقد الفني والنقد الصحفي والنقد المجالسيّ

عْرف النقدَ وأُعَرِّفه بكلمتين: التقاطات التّمييز،
أُضيف صفةً يستحقها وأكتب: هو فن التقاطات التّمييز..
نقَدَ الشيءَ: ميَّزهُ وأظهر حَسَنَهُ من رديئة، ونقَدَ الطائرُ القمحَ: التقطه..
يمكنني التفريق بين ثلاثة مستويات نقدية، وقبولها معاً: نقد فنّي وأدبي، ونقد صحفي إعلامي، ونقد مجالس، الأول يعرض نفسه للأبديّ، والثاني يومي، والثالث لحظي!..
لكلٍّ شروطه:
النقد الفنّي يبحث في جماليات الفنون، غرضه كشف الجميل في الجميل وتبيانه، يلتزم بأخلاقيات كل فن وأدبٍ، تلك الأخلاقيات، الناتجة عن، والمُنتِجة لكل فنٍ على حِدَةٍ، حسب وسائط كل فن وشروط تكوينه، يترفّعُ النقد الفني عن الأعمال الرديئة، يرفعُ أو يكادُ الشعار التالي، الذي لم أعد أتذكر أين قرأته: “كل نقد جيّد لعملٍ رديءٍ هو نقد رديء”!، هذا لا يعني خلوّ النقد الفني من الإشارات إلى خللٍ وعيوبٍ ومفاسد فنيّة، لكنها لا تكون أساساً ولا هدفاً له بحد ذاتها، وليس لها من المساحة في العرض ما يجعل لكلماتها أغلبية، تحضر لمؤازرة الجمال وتستظل بظلّه..
النقد الصحفي أقل رفعةً، لكنه أوضح ميزة!، ميزة هذا النقد أنه فاعل في الحياة اليومية، واضح الأثر، بسرعة يمكن للناس تلمّس نتائجها، فإن لم يشعروا بنتائجها خاب، ربما لذلك يشطح أصحابه، يعلو صوتهم، وتبدو كلماتهم أحد سخريةً، في سباقٍ يُحْمَدُ ويُذَمّ، والمهم أن هذا النوع من النقد يتطلب عرض المحاسن والمساوئ بنسبٍ تفرضها حالة الموضوع المطروح، وتشترطها مساحة الزاوية في الصحيفة، أو الوقت في الظهور التلفزيوني، لكنها في الغالب تعرض للسلبيات والنواقص، فإن هي لم تفعل جاز اتهامها بالرّياء.
***
وكم مِن مُنْتَقَدٍ سمعناه يقول: “أنا مع النقد البنّاء وضد النقد الهدّام”، أو يقول: “لو أظهر المحاسن والعيوب لقبلتُ نقده”، وفي القولين دفاعٌ هزيل عن الذات والعمل، وفي القولين خطأ في فهم طبيعة النقد الصحفي وقصور!، في البدء: كل النقد بنّاء ولا بِنَاءَ دون هدمٍ!، هناك نقد جيد ونقد رديء نعم، لكن نقد بنّاء لا يهدم هذه مخاتَلَةٌ وتدليس، كذبة كبيرة أو لنقل سوء فهم، البِنَاءُ دون هدمٍ يستلزم وجود العَدَم!، وأقصى ما تقدمه لنا الدنيا هو الفراغُ، والفراغُ ليس عَدَمَاً!، أنت حين تبني بيتاً في الصحراء تهدم فراغاً، وحين تضع للبيت سوراً تهدم المَشَاعَ لبناء الخاص، أما حكاية “لو ذكر المحاسن والمساوئ”، فهذه مهمّة المسؤول السياسي عن الأمر، يتخذ قراراته بناء عليها، وليست مهمة الناقد الصحفي، أو هي ليست مهمته على طول الخط وفي جميع الحالات، الكذبة الثالثة هي في الاحتجاج المضحك المبكي: “كان على الناقد الذي عرض المشكلة أن يطرح الحلول”!، لا يا سيدي: ليس على الناقد أن يطرح الحلول وإلا لحق له أن يكون مكانك!، يكفي الناقد اكتشافه لمشكلة جديدة، يقول “توماس دي كويني” وهو محق: “اكتشاف مشكلة جديدة لا يقل أهميّة عن اكتشاف حل مشكلة قديمة”!..
ونحن نقبل من النقد اليومي قليلاً من المجاملة، ونتفهم أوضاعاً تُلزمه برشّ السُّكَّر على قهوته النقدية، شرط أن تظل قهوة، فبائعو الحلوى بالآلاف!..
ننتهي إلى المستوى الثالث من النقد، أسميناه نقد المجالس، وهذا مجاله مفتوح وأخلاقياته واضحة: لا تقترب من الأعراض، ولا تكذب في معلومة، وقل عند أصحابك ما بدا لك، لكن لا تنقل كلاماً لا يريد صاحبه نقله خارج المكان، فللصحبة أصولها..
خلاصة القول: النقد إما فني، أو صحفي، أو مجالسي، الفني دائم، والصحفي يوميّ، والمجالسيّ لحظي، الفني يبحث، والصحفي يتّهم، والمجالسيّ للتسلية!