كتاب سبر

دراسة تحليلية
مقاطعة مضرة.. ومشاركة غير مفيدة

تابعت في الأمس القريب مقابلة رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم على قناة الراي مع الزميل عبد الوهاب العيسى، والتي كانت موفقة في جانبها الفني والمعلوماتي وعرجاء في جانبها السياسي، وذلك لأنني اطلعت على رأي رئيس مجلس الأمة ولم أرى حتى الآن رأي ومبررات رئيس الحكومة في سياساته وقراراته.

فكلاهما حسب العرف السياسي مطالب شعبياً بالتواصل مع المواطنين وكسب ثقتهم. لكن الواقع أن رئيس الحكومة ليس بحاجة لكسب رضى المواطنين لأسباب سأبينها في هذا المقال.
بداية سأتجاوز في هذا المقال الحديث عن أداء المجلسين سياسياً وفنياً. فالموضوع في وجهة نظري أكبر من أداء أشخاص ومجموعات مهما تفوق الأداء أو تراجع. ولكي أبسط طرح هذا الرأي سأقسم رأيي في المشكلة السياسية في الكويت إلى قسمين:
1- الثقة الشعبية في النظام السياسي.
2- انسجام المجلسين في الأداء والأولويات.

الثقة الشعبية في النظام السياسي
أؤمن بشكل عميق أن المشكلة الأساسية ما بين الشعب “الناخبين” وبين المؤسسات السياسية -حكومة ومجلس ومؤسسات الدولة- ليست في التفاصيل الفنية أو السياسات العامة بشكل رئيسي. لكن المشكلة الحقيقة ظهرت بسبب تراكمات من فشل المؤسسات السياسية والسياسيين في حل أغلب المشكلات الرئيسية التي يواجهها المواطن.

فتكرار الأزمات السياسية والأمنية ولو تباعدت تاريخياً، أدت لتشكيل ما يسمى في علم الاجتماع “الذاكرة الجمعية collective memory” أو “السلوك الجمعي collective behavior” للمجتمع، وهي تراكم الخبرات والتجارب التي اشترك فيها غالبية المواطنين تجاه ما يمرون به في العملية السياسية والحياة العامة والتي تساهم في تشكيل قناعاتهم وسلوكهم الحالي. وكنتيجة، ساهمت الذاكرة الجمعية لنشوء حالة عدم الثقة في العملية السياسية بشكل عام.

حالة عدم الثقة المقصودة في هذا المقال باتجاه المؤسسات السياسية والدول ليست كحالة عدم الثقة بين الأفراد، فعدم الثقة في المؤسسات السياسية هو سلوك سياسي جماهيري ينتزع قدرة المؤسسات على تحقيق أهدافها، فامتلاك أي سلطة للصلاحيات والتشريعات لا يعني بالضرورة قدرتها على تطبيقها وإقناع الناس بها، فالثقة هي السلطة الحقيقية لأي مؤسسة سياسية. وقبل الإسهاب، يجب أن أشرح ماذا نعني بحالة عدم الثقة، أو من هو الشخص الذي يعاني من عدم الثقة في المؤسسات السياسية، وألخصها بثلاث معتقدات يؤمن بها المواطن فاقد الثقة بالمؤسسات السياسية:
1- من يعتقد أنه كناخب مادة تستهلك للعمل السياسي والسياسيين وليس هو محور العمل السياسي كمواطن.
2- من يعتقد أن الحكومة والبرلمان لا يسيران في تحقيق أهدافه، ولا يهتمان بمعاناته واهتماماته، فالسلطة السياسية عنده لا تمثله ولا تعبر عن طموحاته.
3- من يعتقد أن الآلية التي تُـتخذ فيها القرارات غير سليمة، وقواعد اللعبة غير عادلة وغير موضوعية، فالمؤسسات والسياسيين عنده عبارة عن مجموعة من المحتالين.
فالناخب أو المواطن التي تتكون عنده قناعات بعدم فاعلية النظام السياسي، لن تجدي معه ألف مقابلة تلفزيونية، أو إعلانات سياسية أو ترويج لسياسة معينة أو قانون، فحالة عدم الثقة تجعل الناخب في حالة “انتقاء المعلومة أو ما يسمىSelective attention” وهي حالة تجعل المواطن يرى وينتقي المعلومات والمواد الإعلامية التي تتطابق وتؤكد ما يؤمن به عن المؤسسات السياسية ولو كانت خاطئة، وهذا هو سر قوة وانتشار الدعاية المضادة للمؤسسات السياسية في الكويت، ليس لتميزها بل لأن الناس تبحث عنها لتعزز قناعاتها المتراكمة.
أزمة الثقة في المؤسسات والنظام مشكلة عميقة جداً ساهمت فيها عوامل تاريخية، سياسية وأمنية يطول الحديث عنها، لكن بالتأكيد فإن كل مجموعة سياسية أو أغلبية برلمانية أو نشطاء في المجتمع لن تتاح لهم الفرصة للعمل والحصول على الثقة الشعبية حالياً أو مستقبلاً قبل معالجة هذه المشكلة بشكل جذري. بعبارة أخرى، لن تحل المشكلة السياسية مهما تغيرت وتعددت البرلمانات والحكومات والشخصيات مالم يتم معالجة النظام الذي يدير العملية السياسية.
مشكلة انسجام أداء المجلسين الأمة والحكومة
بعد تفصيل حالة الثقة الشعبية في النظام السياسي، أنتقل هنا للشق الثاني من المقال وهي مشكلة انسجام المجلسين الأمة والحكومة في أدائهما وأولوياتهما وآليات التنفيذ.

كان جلياً من مقابلة السيد رئيس مجلس الأمة حالة عدم الرضا عن أداء الحكومة لدرجة إعلانه صراحةً أنه طلب من سمو الأمير إجراء انتخابات مبكرة، فعمل الحكومة المنفرد في سياستها وآليات التنفيذ عن مجلس الأمة لا يساعد النواب الحاليين في حملاتهم الانتخابية القادمة.

فمجلس الأمة المنتخب يرى بأن أداءه تحت رقابة الناخبين، وبالتالي يأخذ بالاعتبار رضا ومصلحة الناخب على الأقل في آليات التشريع وإدارة الرأي العام بما يخص بالتشريعات والقرارات. أما الحكومة التي يختارها سمو الأمير، فهي ليست بحاجة “فعلية” لكسب ثقة الناخبين، فالهدف الرئيسي لرئيس الحكومة هو كسب ثقة سمو الأمير الذي يقوم رئيس الحكومة بتنفيذ سياساته حسب ما نص عليه الدستور.

ولعل تعاطي الحكومة والمجلس في أزمة قرار زيادة أسعار المحروقات تبين الأسلوب الذي تنتهجه الحكومة في اتخاذ قراراتها سياسياً وإعلامياً كان نهجاً سيئاً تجاهلت فيه الاعتبارات السياسية وتبعاتها الإعلامية والفنية للقرار. فلا يمكن اتخاذ قرارات إصلاحية غير شعبية من قبل سلطة -تهتم بالرأي العام وردة الفعل السياسي- دون الاخذ بالاعتبارات التالية:
1- القرارات الإصلاحية تطرح كحزمة قرارات وتشريعات وليست قرارات فردية لسببين:
2- دمج القرارات الشعبية وغير الشعبية في حزمة واحدة. (لم يتم)
3- تنويع الآراء السياسية والفنية في مجموعة قرارات بدلاً من توحيد الرأي العام ضد قرار واحد فقط.
4- على السلطتين الدفاع عن القانون فنياً وسياسياً. (لأنه من المفترض أن القرار دُرس فنياً وسياسياً من قبل المجلسين).
5- توفير شرح فني لتفاصيل القرار وتبعاته الإيجابية (وهو الذي تم بشكل متأخر في مقابلة رئيس المجلس).
6- توفير معلومات عن القرارات التالية المصاحبة لحزمة الإصلاحات. (لم يتم).
ولأن عدم الانسجام بين المجلسين سمة عامة للعملية السياسية في الكويت، اضطر نواب في المجلس -مجبرين- للوقوف ضد هذا القرار الذي اتخذ بطريقة تهدد شعبية البرلمان ولا تنسجم مع تحركاته. ولرغبة الحكومة في توفير شيء من الاستقرار، قام المجلسين بتعديل جزئي للقرار (توفير ليترات مجانية للمواطنين) وبرأيي أن تعديل القرار له أثر أشد سوءاً من أثر تطبيق القرار (بالرغم من ان التعديل مستحق) للأسباب التالية:
1- اعتراف من المجلسين أن الضغط الشعبي كان قويا ومؤثرا، وأن القرار لم يراعِ الرأي العام وهذا ما يفقد القرار قبوله وشعبيته.
2- اعتراف ضمني، أن القرار بشكله الأول كان خاطئا وغير مدروس واتخذ بشكل أحادي.
3- اعتراف أن السلطتين قد ترضخان وتقدمان تنازلات قد تكون غير سليمة فنياً في كل مرة يثور فيها الرأي العام.
4- قدمت السلطتان مادة سياسية مجانية لمعارضيها للاستخدام السياسي والإعلامي والانتخابي ضدهما.
حالة عدم انسجام المجلسين سمة عامة للعمل النيابي في الكويت، لا تتوقف على طبيعة تشكيل الأغلبية البرلمانية أياً كانت توجهاتها، ولا تعتمد على شخص رئيس الوزراء أياً كان اسمه.
نتيجة لذلك، ظهرت مطالبات عند بعض الناشطين تطالب في تطبيق العلاج الذي يُطرح منذ فترة وهو خيار الحكومة البرلمانية المنتخبة، وأنا أتفهم دوافع هذه المطالبات لعوامل فنية وسياسية بحتة، وكذلك اتفهم تحفظ السلطة على هذا المقترح لعوامل سياسية وأمنية وإقليمية سأتجاوز ذكرها في هذا المقال. لكن بالتأكيد لا يمكن تجاوز وجود مشكلة حقيقية تهدد النظام السياسي. أطرح في ختام هذا المقال حلاً “انتقالياً” قد يلقى قبول أغلب الأطراف ويشكل جسر عبور لحالة عدم الثقة في النظام السياسي الكويتي. وقبل أن أطرح الحل الذي أراه مناسباً للفترة القادمة، يجدر تبيان ثلاثة عناصر من المهم أخذها بالاعتبار عند أي حل:
1- الخلل الرئيسي في النظام السياسي المعمول به وليس الأشخاص.
2- الحل لا يكون عبر استراتيجيات وتكتيكات سياسية وإعلامية، بل في علاج جذور المشكلة.
3- أزمة الثقة هي مشكلة تهدد النظام، وليست فرصة للسياسيين وغيرهم لزيادة النفوذ.
وكحل مرحلي، يوازن ما بين تطلعات المجالس النيابية في انسجام أولويات الحكومة وأداءها وتعاطيها مع المواطن، وما بين تحفظات السلطة وسمو الأمير في فتح الباب للحكومات البرلمانية المنتخبة بشكل مطلق، أقترح التالي:
1- أن يتم استفتاء عام بعد سنتين من كل فصل تشريعي (بعد سنتين من كل انتخابات نيابية) على أداء رئيس الحكومة، وتكون نتيجة الاستفتاء عبارة عن تجديد او طرح الثقة برئيس الحكومة والأخذ بنتيجة الاستفتاء ملزم للسلطة.
2- أن يتم الاستفتاء على أداء رئيس الحكومة مع كل انتخابات تشريعية على أداءه في الحكومة السابقة. وتكون نتيجة الاستفتاء كرت العبور للاستمرار كرئيس للحكومة أو عدم التجديد له مع المجلس النيابي الجديد.
في هذه الحالة، يكون استمرار رئيس الحكومة مرهون بقدرة حكومته على اقناع الرأي العام بأدائه وتحقيق أهداف الناس، مع عدم الإخلال بحق صاحب السمو في اختيار رئيس الوزراء أو في آلية اختيار رئيس الحكومة لوزرائه. كذلك يعطي البرلمان والحكومة القدرة على الانسجام في التعاطي مع الرأي العام وترتيب الأولويات. يبقى أن لهذا الحل تبعات قانونية ودستورية لست متخصصاً في طرحها ولا يسع المجال تناولها في هذا المبحث.
ختاماً، أعتقد أن تعاطي الأطراف مع المرحلة المقبلة على أنها استمرار لحالة الصراع السياسي لن يؤدي إلاَ لمزيد من التخريب السياسي والاجتماعي، فالمرحلة المقبلة مرحلة تنازلات سياسية من جميع الأطراف، فالانتصارات السياسية تحدد من هو الطرف الذي عليه أن يقدم تنازلات أكثر من الآخر، أما الانتصارات التي تؤدي إلى قتل الخصوم والتنكيل بهم فهي تتناسب مع حلبات الملاكمة حيث انتصار شخص مرتبط بموت شخص آخر.

ناصر المجيبل
@Nalmujaibel
N.almujaibel@temple.edu

للاستزادة
Gamson, W. A. (1968). Power and discontent. Homewood, IL: Dorsey Press.
Hardin, R. (2004). Distrust. New York, NY: Russell Sage Foundation.
Luhmann, N. (1979). Trust and power. New York, NY: John Wiley
Pennebaker, J. W., Páez, D., & Rimé, B. (1997). Collective memory of political events: Social psychological perspectives. Mahwah, N.J: Lawrence Erlbaum Associates.

تعليق واحد

أضغط هنا لإضافة تعليق