أقلامهم

النظارة السوداء

النظارة السوداء في الفيلم الوثائقي للفيلسوف سلافو جيجك لا علاقة لها بقصة فيلم النظارة السوداء لإحسان عبدالقدوس. في الفيلم العربي تضع “ماجي” (نادية لطفي) نظارتها بكل الأوقات، تريد أن تخفي خلفها عينيها اللتين تكشفان ضياعها وصراعها بين الحرية الشخصية، كما تفهمها كليبرالية وسطية يسوقها إحسان عبدالقدوس، تمثل فكر الطبقة الوسطى في مصر وبقية العالم العربي في ستينيات القرن الماضي أيام المجد الثورية الجميلة، وبين القوى المحافظة. هنا تبدو الليبرالية العاقلة كحالة “توفيقية” بين قيم الماضي المحافظة والجديد الذي يطرح نفسه مع عالم الحداثة، فتتوه “ماجي” في الصراع بين حرية وجودها وبين القيم التي يحيا بها المجتمع، حتى يأتي الحل “التلفيقي” في التسوية بين المسألتين بأن تتنازل “ماجي” عن حريتها المطلقة آخر الفيلم، وتتقبل القيود الاجتماعية بتوفيق خيالي، كما يحاول أن يصيغه إحسان عبدالقدوس كترجمة للقيم الوسطية الأخلاقية لثورة يوليو.

نظارة سلافو جيجك السوداء لا تخفي عيني صاحبها، بل هي تعمل بالعكس تماماً، هي تظهر الحقيقة عارية لمن يضعها على عينيه، نظارة سلافو لا تستر العينين، بل تكشف الزيف والخداع الذي تفرضه الأيديولوجيا على الناس بمعنى جملة المعتقدات و”المظاهر الشكلية” السائدة التي تسلب الإنسان حريته وحقيقته وتزيفهما. فالإعلان الملون في شارع بنيويورك عن جزر الباهاما وتظهر فيه صورة امرأة جميلة بالمايوه يدعو المارة لزيارة الجزيرة للاستمتاع بشمسها وبحرها، وحين يضع الممثل النظارة تظهر الصورة الحقيقية كدعوة جنسية تدر الأموال للجزر، ولنا أن نقيس بقية المشاهد التي تحيط بنا ليس في الإعلان التجاري فقط، بل تمتد أدوات لتزييف الواقع والترويج لأيديولوجيا السلطة المهيمنة. وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد كان يتحدث بكل ثقة وعجرفة عن أسلحة الدمار الشامل بالعراق أيام صدام، ولابد عندها من غزو العراق وتدمير تلك الأسلحة، نتصور أنه حين نضع نظارة جيجك نشاهد رامسفيلد يتحدث عن أهمية تفتيت العراق والهيمنة على نفطه بدلاً من الكذب عن وجود أسلحة الدمار الشامل.

نتخيل حال أحدنا لو وضع نظارة جيجك وقرأ تصريحات المسؤولين والقياديين، كيف يقرأ تصريح ذلك السياسي عن صفقة أو عقد الدولة مع شركة ما؟! بدون نظارة جيجك سيقرأ الخبر رسمياً عن ضرورة إنجاز هذا العقد لحماية مثلاً الأمن الداخلي أو الخارجي وضرورته، أو لتسهيل الأمور على المواطنين، وعندما يضع النظارة سيطالع حقيقة العمولة الكبيرة والإثراء غير المشروع من حساب الخزينة العامة. كيف يمكن أن نقرأ تصريحات نائب ونواب في مجلس سابق حين يسوقون الكلام مثلاً عن ضرورة قانون البصمة الوراثية، أو قانون يخول السلطة التنفيذية سحب الجناسي وغَلَّ يد القضاء من أي دور رقابي عليها، مثلما كان مشروع قانون “مجلس الدولة” لوزير العدل السابق؟! كيف نقرأ تلك التصريحات مع نظارة جيجك؟! كيف نشاهد هذا الوطن “حافياً”؟ أي نراه بحقيقته التي لم تعد حقيقته ولا جوهره… الأفضل عدم وضع نظارة جيجك السوداء، كي لا نطالع وطننا ينتهي كصحراء جرداء، فلنبق في وهم الكذب والزيف من دون نظارات جيجك الكاشفة.