كتاب سبر

بمناسبة اليوم العالمي للغة الضاد..
أهميّة تعلّم اللغة العربية والتعليم بها

للغةِ أهميةٌ تتجاوزُ التخاطبَ والتواصل، فهي إلى جانبِ أنها هويةٌ وانتماء، هي وعاءُ المعرفة، وهي الركنُ الأولُ في عمليةِ التفكير، فالإنسانُ لا يستطيعُ أن يفكّرَ خارجَ لغته، لأن التفكيرَ نوعٌ من الكلام الداخلي.. وقد أشارَ القرآنُ إلى العلاقةِ بين الفكرِ واللغةِ في قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) وقوله: (وكذلك أنزلناه حكما عربيا).. وبعضُ علماءِ النفسِ اللغويون يقرّون هذه العلاقة، ولهم فيها مؤلفات.

فالصلةُ وثيقةٌ بين التبحّرِ في اللغةِ وبين سعةِ الفكر، وهذا شيء يثبته الواقع، فأكثرُ مفكري العالمِ لغويون أو متمكنون في اللغة. والإنسانُ -في كلِّ مجالٍ وتخصص- كلما زادَ فِهْمُهُ للغتهِ توسعتْ مداركُهُ لفهمِ العلومِ الأخرى، وقد تنبّه لهذا الأمرِ غيرُ عالمٍ من العلماءِ قديما وحديثا، منهم أبو عمرو بن العلاء عندما قال: “قَلّما أتقنَ أحدٌ العربيةَ فاحتاجَ إلى علمٍ آخر”، يعني أن إتقانَ اللغةِ العربيةِ يعينُ على فهمِ العلومِ الأخرى. وحول ذلك قال الشافعي: ما جهل الناسُ ولا اختلفوا إلا لتركهم لسانَ العرب. ومن المعاصرين يقول زكي محمود: إذا دبَّ خللٌ في اللغةِ دبَّ خللٌ في التفكير، ذلك أن العلاقةَ بين اللغةِ والفكرِ علاقةٌ أزليةٌ، فلا فكرَ دون لغةٍ ولا لغةَ دون فكر.

وإتقانُ اللغةِ العربيةِ ليس حكرا على المتخصصين كما يشيع خطأ بين مثقفي زماننا، هو واجبٌ على كل ناطق بها، ولا يحقُ لأيِّ عربيٍّ أن يتعذّرَ لضعفِهِ في لغتِهِ بأنه متخصصٌ في غيرها، أو أن تحصيلَهُ العلمي كان بلغةٍ غيرها، لأن العربيةَ لغته الأم، ومادةُ ثقافتِه وشريانُها المتدفق، وبها يتمايزُ المثقفون.. وقد كان عُمرُ بنُ دينار يقول: تعلموا العربيةَ فإنها المروءةُ الظاهرةُ التي ترفعُ الوضيعَ إلى مراتبِ الأشراف! وقال المدائني: إذا أردتَ أن تعظمَ في عينِ من كنتَ عنده صغيرا، ويصغرُ في عينكَ من كان عندكَ كبيرا فتعلّمِ العربية.
كما أن إتقانَ اللغةِ أكبرُ معينٍ للإنسان في تخصصه، إن كان سياسيا أو محاميا كان باللغةِ أقوى لإبرازِ حجته ودفعِ خصومه، وإن كان معلّما كان أجدرَ من غيرهِ بإيصالِ المعلوماتِ وتذليل صعوباتها، وإن كان شاعرا كان أقدرَ على بث مشاعرِهِ وأحاسيسِهِ من غيره، لامتلاكِهِ أدواتِ التعبيرِ ومعرفتِهِ بأساليبِ الكلام.

ولأن اللهَ يزعُ بالسلطانِ ما لا يزعُ بالقرآن، فإني أوجّه بعضَ الاقتراحاتِ لبعضِ الجهاتِ والأشخاصِ من أجلِ الارتقاءِ بهذه اللغةِ وخدمتِها.
أولها: إلى الحكومةِ وأصحابِ القرار، نأملُ منهم إنشاءَ مجمعٍ لُغويٍّ أسوةً بالدول العربية، تُبحث فيه قضايا اللغةِ والمصطلحاتُ العلميةِ واللغوية.. ويكونُ منارةً من مناراتِ النشاطِ الثقافيِ في الكويت..
ثانيا، إلى وزارة التربية.. نأملُ من القائمين على المناهجِ أن يعيدوا النظرَ في مناهجِ اللغةِ العربية، وألا يعمدوا إلى تمييعِها وقتلِ روحِها بقصدِ تيسيرها! تيسيرُ العلمِ يكونُ بطريقةٍ وبأسلوبٍ يُتّبع، ولا يكونُ بتفريغِ المادةِ من كثيرٍ من أبوابها! ونأملُ منهم تكليفَ الأكفأ من المتخصصين -بعيدا عن المحسوبيات- لوضع منهجٍ جيدٍ وشامل.. وأن يستحدثوا مادةً للمحادثة في اللغة العربية، كمادة الـ(Conversation) في اللغة الإنجليزية، لأن اللغةَ ملكةٌ سماعيةٌ تُكتسبُ عن طريقِ السماعِ بالدرجةِ الأولى، والتعليمُ بالكتابةِ والنسخِ لا ينمي جهازَ النطق.
كما نأمل من المعلمينَ وأساتذةِ الجامعاتِ التحدثَ باللغة الفصحى في قاعاتِ الدرس، حتى يعتادَ الطالبُ على سماعِ اللغةِ الفصحى بدلا من حشو ذهنِه بقواعدَ لا يستعملُها لا في قاعةِ الدرسِ ولا خارجَها!
ونأمل من أقسام اللغة العربية في الجامعات الاهتمام بعلمي النحو والإملاء -خاصةً- لغير المتخصص، لأنه يحتاجُ هذين العلمين طيلةَ حياته.
والاهتمامُ بمناهجِ اللغةِ العربيةِ له أثرٌ يعودُ على ثقافةِ المجتمعِ بشكلٍ عام.. وأنا أرى أن ضُعفَ مناهجِ اللغةِ العربيةِ سببٌ رئيسيٌ لقلةِ شعراءِ الفصحى في الكويت، والدليل أن الشعراءَ الشعبيين في الكويت كُثر، والذي جعلهم ينقطعون على الشعرِ الشعبي مع امتلاكِهم الموهبةِ ضعفُهم في اللغةِ العربية، لأن الشعرَ الفصيح -كما تعلمون- يحتاجُ إلى معرفةِ قائلِهِ بالنحوِ والعروضِ وبعضِ علومِ اللغةِ الأخرى.. وهنا يتخرجُ الطالبُ من الجامعةِ وهو ضعيفٌ في هذه كلِها، بل قد تكونُ الكويتُ الدولةَ العربيةَ الوحيدةَ التي لا تُدرّس علمَ العروضِ والقافية في مناهجها!

الدعوة الثالثة: إلى الجامعاتِ ومراكزِ الأبحاثِ العلميةِ التي تعتمدُ اللغةَ الإنجليزيةَ لغةً رسميّةً لها.. ما الداعي إلى الانقطاعِ على اللغةِ الإنجليزيةِ في التدريسِ والبحثِ ونحن عربٌ وفي دولٍ عربية!
لا يمكنُ لأي دولةٍ أن تبدعَ بغيرِ لغتِها. كوريا أبدعت بلغتِها، والصين كذلك، وفيتنام. وبلغاريا.. كل هذه تطورتْ بلغاتِها الوطنية.. وفي المقابلِ استخدمتْ نيجيريا اللغةَ الإنجليزيةَ في التعليمِ وفشِلتْ ومستواها في الحضيض..
ومن غيرِ المقبولِ التعذّرُ بأن أكثرَ المصطلحاتِ العلميةِ باللغةِ الإنجليزية، فقد أثبتت دراساتٌ علميةٌ على كتبِ تعليمِ الطبِ بالإنجليزيةِ أن المصطلحاتِ العلمية لا تتعدى 3% تقريبا من لغةِ الكتاب، والباقي شرحٌ يمكنُ أن يؤدّى بأيةِ لغة! وهذه المصطلحاتُ تسعُها اللغةُ العربية إما بالترجمةِ أو بالتعريبِ أو بإبقائها كما هي. وكثيرٌ من الدول تدرّسُ الطب بلغاتِها، من تلك: اليابان، وهولندا، وسويسرا، والسويد، وروسيا، واليونان، وفلندا.. بل إن تركيا لوحدِها بها اثنتانِ وعشرونَ كليةَ طبٍ تُدرّسُ الطب باللغةِ التركية.. واللغةُ العربيةُ أقدرُ على حملِ المعارفِ والعلومِ من لغاتِ هذه الدول، لأنها لغةٌ ولّادةٌ تفوقُ غيرَها بكثرةِ جذورِ الكلمات، وبالاشتقاق، وبالتعريب، وبسعةِ التعبيرِ ودقته.. إلى غيرِ ذلك من المميزات، وقد كان لسوريا والسودانِ تجربةٌ جيدةٌ في تعليمِ الطب باللغةِ العربية.

رابعا: إلى وزارة التجارة ، نأمل منهم منعَ تسميةِ المحلات بأسماء أجنبية، وألا يُجبروا أصحابَها على الاسم المركب حتى يسهلَ لهم الانتقاء.

خامسا: إلى الفنانين: المطربين والممثلين، أين أنتم من الكلمة الفصيحة؟! أتعلمون أنها تخدمُكم أكثرَ من خدمتِكم لها! وأن الكلامَ العامي يُقزّمُ الفنانَ ويجعله أسيرَ بلدِه وإقليمه، بعكس الفصيح الذي يفهمه أكثرُ من ثلاثمئة مليون عربي، ويتعبّد به أكثرُ من مليار وربع المليار مسلم! وقد أوصلت الكلمةُ الفصيحةُ بعضَ المطربين إلى العالميةِ عندما لزموها!
فندعو الفنانينَ إلى استخدامِ الكلمةِ الفصيحةِ في بعضِ أعمالِهم، لبثّ الفصحى في مفاصلِ الحياة، ولترغيبِ الناشئةِ بها. ولإخراجها من رتابةِ المنابر ونشراتِ الأخبار..

والدعوةُ الأخيرةُ إلينا جميعا، إن قصّرتْ المناهجُ أو المؤسساتُ الرسميةُ فلا نقصّرْ نحن في الاهتمامِ بلغتنا، وحثِ أبنائنا على تعلمِها، خاصةً وأن سبلَ التعلّمِ والسؤالِ مُيسرةٌ في هذه الأجهزةِ التي نحملها طوال الوقت.