أقلامهم

أوروبا.. تودّع حقوق الأقليات الأساسية

يلحظ مراقبون أن أوروبا باتت في الآونة الأخيرة تغرق أكثر وأكثر في أعماق هضم أو تقييد الحريات والحقوق الأساسية لحقوق الإنسان.

في حين أن هذه الحقوق صيغت من قبل الدول الغربية نفسها للهروب من أغلال الملكيين والطغاة المستبدين.

فهناك اليوم انطباع قوي يكاد لا ينفك، أن السلطة في أوروبا طغى عليها نوع من ديكتاتورية الأغلبية وأصبح تطبيق المبادئ نسبياً، ولم تعد المساواة أمام القانون والأمن البشري تطبق على الجميع بالطريقة نفسها.

يحدث ذلك بشكل رئيسي ضد الأقليات المسلمة في أوروبا التي كانت ضحية للتمييز على مدى العقد الماضي.

مناخ كراهية الإسلام هذا الذي يدعمه الكثير من المواطنين الأوروبيين، بالإضافة إلى الآلية الإعلامية الكبيرة، يدفع السياسيين والجهات الفاعلة العليا في المجتمع إلى اتخاذ مواقف متناقضة مع مناهجها بشكل عام لكسب أصوات الشعب.

لقد أصبح من النادر أن يرفع شخص صوته ضد الإسلاموفوبيا التي تتعارض من حيث المبدأ مع القيم الأساسية للفكر الحر والديموقراطي الأوروبي، وأمام موجة العداء الكبير الموجهة ضد الإسلام، حتى الفلاسفة بدأوا يعتقدون أنه قد حان الوقت لإعادة تعريف الحق في الحريات والحقوق الأساسية ووضع شروط جديدة لها، وبالتالي فإن الحقوق لن تطبق بالطريقة نفسها على الجميع، وهذه الفكرة تعد قضية خطيرة جداً إذا ما طورها أصحابها وقد تعود بأوروبا إلى مفاهيم العصور الوسطى مع ما يعني ذلك من استعادة العصبيات الظلامية والتمايز بين البشر المؤدي إلى تراجع الحضارة وسقوطها في وحل الظلمة من جديد، حتى بات واضحاً أن الدفاع عن هذه القيم والحريات أصبح بالتالي مسألة شجاعة ومخاطرة في أوروبا، ففي الآونة الأخيرة تحدث الرئيس النمساوي إلكسيندر فان دير بيلن بوضوح ضد الإسلاموفوبيا والحقوق المحددة ضد المسلمين، خلال الجدل السياسي حول حظر الحجاب في المدارس والهيئات العامة حيث إن أغلبية كبيرة كانت توافق الحظر (80 في المئة، وفقاً للبث التلفزيوني «من الشعب للشعب» لقناة بولس 4 بتاريخ 7 مايو 2017). فأجاب الرئيس: «إنه لمن المدهش رؤية هذا هنا، وفي حال استمرار هذه الإسلاموفوبيا، أعتقد أننا سنكون مضطرين يوماً ما أن نرتدي الحجاب جميعاً تضامناً مع النساء المسلمات». وكانت الانتقادات ضد الرئيس هائلة حتى أن حزب الأغلبية في البرلمان النمساوي تحدث عن عمل انتحاري ضد سياسة الاندماج.

لكن فان دير بيلن صرح بعد الهجوم عليه: «أنا لا أفهم هذه المبالغة، مع أنني لست صديقاً للحجاب، ولكن لا تزال هناك حرية التعبير وحرية الاختيار الفردي، أليس كذلك؟».

في الجانب الآخر، فقد أصبح من العادي والمقبول تجاوز القوانين ضد المسلمين، حيث رحب سيباستيان كورس المرشح الرئاسي للانتخابات المقبلة في النمسا بقرار المحكمة الأوروبية في قضية حظر الحجاب في أماكن العمل قائلاً إن الحظر لم يكن تمييزاً ضد النساء المسلمات ولا هضماً للحقوق الأساسية، ثم أضاف حظر الحجاب في الأماكن العامة في النمسا إلى برنامجه الرئاسي، وقد تم ذلك على ما يبدو بنجاح.

في بداية يوليو 2017، قدمت وزارة الخارجية برئاسة سيباستيان كورتس بدراسة عن تعليم المسلمين حيث تم تزوير الأدلة لتشويه صورتهم، فتم مثلاً حذف التعليقات الإيجابية التي أدلى بها آباء مسلمون من هذا القبيل: «المسلمون يريدون أن يندمجوا في المجتمع، وأن يتلقوا تعليماً جيداً» والاستعاضة عنها بتعليقات مثل: «يجب على المسلمين خلق مجتمع منفصل لإنقاذ أطفالهم من الانحلال الأخلاقي لهذا المجتمع» تم التخطيط لكل هذا من قبل المرشح سيباستيان كورتس للفوز بأكبر عدد من المؤيدين خلال حملته الانتخابية، والمؤسف أن هذه الفضيحة لم يكن لها أي تأثير يذكر، ولا يزال ترشيحه قائماً وفرصه في الانتخابات تعتبر جيدة، وبينما يتصدر تأثير الانتقادات ضد الرئيس النمساوي العناوين لمدة أسابيع، اختفى أثر فضيحة مستشار الدولة المستقبلي المحتمل بسرعة.

في وقت سابق في أوروبا، لم يكن من السهل التغاضي عن فضيحة ضد أقلية مثل هذه، وهذا أمر مثير للقلق، ولكن منذ صدور القرار الأخير للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتاريخ 11 يوليو 2017 بشأن مسألة اختيار النساء ارتداء النقاب، أصبحت الأمور أكثر إثارة للقلق، خصوصاً إذا فهمنا الحجة وراء قرار المحكمة.

فقد أقرت المحكمة أن حظر النقاب في بلجيكا وفرنسا والنمسا وهولندا لا يعتبر تقييداً للحقوق الأساسية للمسلمين وبالخصوص النساء، أما الدليل على أن حظر النقاب ضرورة لمجتمع ديموقراطي فيثير الدهشة، حيث صرحت المحكمة بأن ارتداء النقاب من شأنه أن ينتهك حريات الآخرين!، وبالتالي فإن قرار حظر النقاب أو بالأحرى الالتزام بعدم ارتدائه قرار قانوني.

هذا النموذج من الحجج يدفن العقيدة الأساسية المطبقة لعقود في أوروبا والتي تنص بأن الحريات الفردية محمية، وللمرة الأولى في التاريخ يبدو أن المحكمة تخضع للرأي العام والأغلبية بدلاً من الحفاظ على حقوق الحرية الدينية وحرية الاختيار.

قد يكون لهذا القرار عواقب وخيمة، فإذا فكرنا أبعد بقليل فإن حجة المحكمة يمكن أن تطبق أيضاً لمنع الحجاب والصلاة في الأماكن العامة، لذا تعد هذه دعوة واضحة إلى الدول الأوروبية الأخرى لتنضم لهذا النقاش بما أنه لن تكون هناك عواقب.

كان سابقاً للحقوق الأساسية تعريف آخر، فقد مضى وقت كان يتفق فيه الجميع على حقيقة أن للفرد الحرية في الاختيار إذا لم يكن فيه أي ضرر للطرف الآخر، وعليه نطرح على أنفسنا السؤال التالي: كيف يمكن للنقاب أن يسبب ضرراً للطرف الآخر؟

يبدو أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تمهد لشريعة قضائية تتناقض مع قيم التسامح وحماية حقوق الأقليات، فإذا أمكن انتهاك الحقوق الأساسية للأقليات لأنها تزعج الطرف الآخر، فقد يمكن أيضاً أن تحذف إذا كانت الأغلبية تساند ذلك، وعلى هذا المفهوم الذي لا يتوافق مع المنطق والحقوق والقانون نقول وداعاً للحرية الإنسانية والحقوق الأساسية التي كانت أوروبا تعطينا دروساً فيها!