آراؤهم

فاتك الكثير.. يا “مسيلمة”!

أن تتعرض لوصلة كذب رخيص من أحد الأشخاص لاعبي الأدوار الثانوية على خشبة مسرح حياتك -ولأي سبب كان- هو أمر وارد ووارد جداً، فالأمر لا يعدو كونه تصرفاً فردياً مقيتاً، ولكن أن تنشئ مؤسسة بقضها وقضيضها لامتهان الكذب بميزانيات سنوية ضخمة، وبإشراف جهات رسمية، وبمديرين بربطات عنق ورؤساء أقسام وعاملين، ومقابلات شخصية لتوظيف كذابين جدد، ومراكز تدريب، لتعلم أحدث ما توصل إليه العقل البشري من أساليب وفنون الكذب والخداع المختلفة، فهذه ظاهرة تستحق أن يقف المرء عندها.
صاحب آلة الدعاية النازية «يوزف جوبلز» الذي خدع ملايين الألمان، وصور لهم أدولف هتلر بأنه المُخلص الذي سيعيد للعرق الآري أمجاده الغابرة، لم يكن يعلم هذا الماكر القصير أن مقولته التي أطلقها في ذلك الوقت «اكذب حتى يصدقك الناس» لم تعد تُجدي نفعاً في زمن الإعلام الرقمي والفضاء المفتوح، فلقد استخدم الكذب والخداع من هم على نهجه سائرون، وبسنته مقتدون، فإذا بمواقع التواصل تلقف ما يأفكون، كل ما يأفكون.
هي «العبرية» التي تعلو ولا يُعلى عليها ما إن يأتي على ذكر الكذب، هو الكذب النقي الخالي من الشوائب، الكذب في حالاته الأولى، الكذب الـ «pure» هي العبرية -كما يحلو لكثيرين تسميتها- فهي لا تمت لكلمة «عرب» بأية صلة حقيقةً، إلا إذا جررنا حرف الباء عنوة إلى مقدمة الكلمة… هي كذلك!
هي النعيم المقيم لمسيلمة ورفاقه لو كانوا بيننا، كعبة أوغاد العالم بلا أدنى شك، لو كان للأوغاد كعبة يحجون إليها.. معسكر تدريب كل أفاقي الدنيا الذين مروا عبر العصور المتعاقبة، منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا، هي الاختبار الدوري للمرء -الذي لا بد منه- للوقوف على مدى سلامة وعيه الفكري وقواه العقلية، هي الخطيئة البشرية الثانية وكفى.
لكل قناة الحق في أن يكون لها خطها التحريري الخاص بها، بما يتماشى مع مصالح وأجندات مشغليها، فهي بالنهاية لم تُنشأ كمَبرّة خيرية، كأن تقدم خبراً وتؤخر الآخر، تفرد لتلك القضية مساحة وتقلص مساحة القضية الأخرى، هذا ما يقبله المشاهد على مضض، طالما لم تطأ المحذور وتلفق أخباراً كاذبة لا أساس لها من الصحة، فإن هي فعلت، عندها فقط ستتحول من قناة إخبارية تمتلك حداً أدنى من المهنية، إلى شيء آخر مختلف تماماً، يحول بيني وبين ذكره سطوة الرقيب الخانقة.
لقد تحولت العبرية وأخواتها لينبوع سخرية لا ينضب، وشلال هراء هادر لا يتوقف، ومادة خصبة للتندر، ومبعث استئناس لمن خالج قلبه شيء من كدر الدنيا.. هم يكذبون، ويعلمون أنهم يكذبون، ويعلمون أننا نعلم أنهم يكذبون، الأفاكون لا يتوانون عن الكذب ولا يخجلون، نراهم عراة من شدة كذبهم وهم لا يشعرون، وهذا ما يثير حنقي حقيقةً، رؤوس الحربة في تلك القنوات من مذيعين ومراسلين الذين استرخصوا أنفسهم، وجعلوا منها أبواقاً رخيصة تتقيأ على رأس كل ساعة شتى صنوف الخداع، هل هؤلاء القوم أناس طبيعيون؟ هل ما زال المقربون منهم يكنون لهم قدراً كافياً من الاحترام؟! هل سبق وتم إخبارهم بأن الكذب من الصفات المذمومة شرعاً وعُرفاً في كل ديانات العالم وفي أدبيات كل الشعوب؟! فضلاً عن امتهانه كمهنة، الأهم من هذا كله، هل ما زالوا يحتفظون بشيء من الاحترام لذواتهم؟ هل لديهم أطفال؟ هل بمقدورهم أن يحدثوا صغارهم عن مكارم الأخلاق وفضائل الصدق بينما هم غارقون بالآثام؟! ما الفرق بينهم وبين بائعات الهوى؟! فكلهم يمارسون نفس الرذيلة، وإن كان بوضعيات مختلفة من أجل كسب المال؟!
ولكن على ما يبدو أن للإنسان قدرة مرعبة على تبرير الباطل وتزيين القبيح ليتوافق مع الحدود الدنيا المطلوبة لارتياح الضمير، وليتسق مع الأهواء والمصالح الشخصية الضيقة، هم يفعلون كل هذا بكل تأكيد، وإلا لما استقامت حياتهم بهذا الشكل، قد يفعل الإنسان كل الموبقات خالصة لوجه ربه الكريم، كما يريد هو أن يعتقد.
بإمكانكم يا طحالب مياه الخليج الضحلة أن تخدعوا كل الناس بعض الوقت، وبعض الناس كل الوقت، لكنكم بالتأكيد لن تستطيعوا خداع كل الناس كل الوقت، كما قال إبراهام لينكولن.

على الهامش:
«حتى العفاريت المنهمكة في تدبير شؤون حياتها المعيشية لم تسلم، تم الزج بها في أتون معركة الكذب الخاسرة، بعد أن استنفدوا تلفيق كل التهم على البشر، كذلك هو الحال مع البقر».