أقلامهم

عبدالحسين عبدالرضا.. الممثل الذي لم يمثل علينا!

الفنان.. الفنان، ولا صفة بعدها أو قبلها يمكنها أن تصف فنانا بحجم وقيمة عبدالحسين عبدالرضا.. بدأ فنانا وانتهى كذلك، وما بين البداية والنهاية مسيرة زاخرة بالإبداع الذي لا ينتهي بانتهاء الحياة، ولا يفنى بفناء الجسد، ولكنه يبقى ليبرهن على أن الفن خلود في الحياة وما بعدها.

الفنان.. الفنان، الممثل الذي أضفى على التمثيل قيمة أخلاقية رفيعة، عندما ظهر في زمن كان ينظر فيه كثيرون إلى فن التمثيل تحديدا تلك النظرة الملتبسة ما بين التسلية والدونية والتهريج. فأتى هذا العبقري ليعيد تشكيل المعنى ويسمو به ليكون معادلا موضوعيا للبهجة والوعي والسلوى، ويحلق بأجنحته الكثيرة انتصارا للخير والجمال في أزمنة الشر والقبح والموت المجاني.

الفنان.. الفنان، غابة الفرح التي ظللت الكويتيين تحت عروشها الخضراء طوال نصف قرن من الفن، الذي ساوى بين الغني والفقير، والمواطن والوافد، والصغير والكبير، بنظرته التي ساوت بين الطوائف والأطياف وتسامت فوقها، ثم حفرت في عمق الكويت تاريخا اجتماعيا تشظى وتوزع على ما قدمه من شخصيات مختلفة عاشتها الكويت طوال قرن كامل من التحولات!

الفنان.. الفنان، الإنسان الذي لم تزُل إنسانيته عن موضعها من الحياة أبدا، حتى وهي تسير على «درب الزلق»، في التمثيل، إذ عبّر في لقاءاته التلفزيونية والإذاعية والصحافية الكثيرة عن آرائه الشجاعة والجريئة تجاه كل القضايا التي تعتمل في الداخل الكويتي بكل تناقضاته الطافية على السطح، أو تلك المختبئة في القاع. ولم يكن يخشى لومة لائم، فهو الذي واجه الكبار بأحلام الصغار، منحازا إلى طبقته المتصاعدة عبر خطوط «الأقدار».

الفنان.. الفنان، الابتسامة التي اتسعت لتضم بين جنباتها حتى الأحزان، لأنه عرف مبكرا أن الفرح منتهى اللذة كما تصورها لنا كل النظريات المعرفية والأيديولوجيات التي غاصت بحثا عن سر الإنسان في الوجود وما بعده.

الفنان.. الفنان، الممثل الذي لم يكن يمثل علينا ولا يمثل لنا، بل كان يمثلنا في كل دور تلبّس به واشتبك معه. كان يتحدث بلسان «بني صامت»، معبرا عن الضمير الجمعي لمن لا صوت له في واقع الصوت العالي والضمير الأخرس، منحازا لـ«عتاوية الفريج» في لعبة الديموقراطية الوليدة، المتفرجين على «هامان وفرعون» في حروبهما المترفة، بتعالي الذين يعتقدون أنهم فوق كل شيء، لأنهم لا يملكون شيئا!

الفنان.. الفنان، الساخر الذي نزع من الكوميديا صفة التهريج فانتقل بها إلى مرحلة السخرية الناقدة ليجعلها قيمة الإنسان عندما تكون ضحكته كالبكا، وابتسامته هي الصدقة التي يداوي بها جراح الزمن وأهله، ولا يبخل عليهم بـ«درس خصوصي» عن أسرار العيش الرغيد التي ربما لا يعرفها «فرسان المناخ»!

الفنان.. الفنان، العبقري الذي صهر في بوتقة موهبته التمثيلية المتفردة كل القيم الإنسانية والأخلاقية والفنية كي تسري فيها روح واحدة لا تحيد حتى لو كانت «ضحية بيت العز»، فالعز الحقيقي هو الإنسان.

الفنان.. الفنان، المغني الذي غنى أحلامنا الصغيرة وحلق بها على «بساط الفقر»، حيث لا يملك الفقراء المنتظرين على هامش البلاد الثرية سوى أحلامهم المحلقة. والصوت الرخيم الذي جلجل بالحب والرومانسية كما يعيشها البسطاء قبل غيرهم في سلسلة الأوبريتات التي أرخ فيها حيوات كثيرين عاشوا من دون أن يشعروا بها كما رسمها لهم عبدالحسين عبدالرضا على الشاشة! وهو الأغنية الطافحة بالبهجة والعفوية في جلساته المسربة وتسجيلاته القاهرية الأنيقة، حيث يطغى صوته على دندنة العود برهافة الشجن وكبرياء الحزن.

الفنان.. الفنان، المؤرخ، ولا أظن أن مؤرخا كتب تاريخ الكويت بمثل الدقة التي سجل فيها عبدالحسين عبدالرضا هذا التاريخ في كل أعماله، إذ تسلّل كلاعب خفة ماهر إلى مكامن المسكوت عنه في التاريخ الحديث ليبلوره لنا في مشاهد تمثيلية لم تكن لتجرؤ على تعريفنا بها المناهج المدرسية ولا كتب المؤرخين المرتبكين.

الفنان.. الفنان، الداعية.. نعم، هو كذلك ولا ريب!
داعيتنا إلى الخير والفرح والجمال. إلى الصلاة والصدق والمحبة، إلى الله الذي خلقنا بشرا سويا، وخلق لنا الفرح سلوى، وجعل من الابتسامة في وجوه الآخرين صدقة تدخلنا إلى جنان البهجة.

الفنان.. الفنان، الموجوع الكبير الذي تحايل على أوجاعه كثيرا، وحاول خداع قلبه المرهق طويلا.. لكن القلب الكبير كشف أسرار الخدعة وفك لغز الحيلة على حافة الثمانين حولا، فقرر التوقف لعل الجسد يرتاح أخيرا من طموحات فنان بحجم وطن اسمه عبدالحسين عبدالرضا.. رحمه الله.