محمد فاروق الامام
كتاب سبر

آذار وبحار الدم (22)
سورية البعث تفتح أبواب دمشق لاستقبال كوهين

في أواخر عام 1961م زفَّ ثابت لأصدقائه البشرى بأنه يعد العدة للسفر إلى دمشق.. وعندئذ أمطروه بوابل من أسماء معارفهم وعناوينهم من رجال أعمال، وموظفي حكومة، وأصدقاء شخصيين.. ووعده الجميع بأن يكتبوا إلى دمشق ليضمن كل مساعدة ممكنة للاستقرار هناك.
والحقيقة أن كوهين، وبناءً على تعليمات من رؤسائه، عاد إلى تل أبيب بعد أن حصل على تأشيرات من القنصلية اللبنانية وقنصلية الجمهورية العربية المتحدة.
بعد أن قضى كوهين إجازة قصيرة بين أهله في تل أبيب.. حان وقت عودته للعمل.. وقد زوده رؤساؤه في الموساد بالأدوات والتجهيزات الالكترونية ومواد التصوير ومواد تساعده على صنع المتفجرات وأقراص سُمٍّ يستعملها عند الضرورة القصوى وهي على هيئة أقراص أسبرين. كما كان معه مواد كيماوية لصنع المتفجرات الشديدة.. أودعها في أنابيب معجون الأسنان.. وعلب صابون الحلاقة.. وكانت مجموعة تجهيزات الكاميرا اليابانية الممتازة التي معه تشتمل على أدوات لصنع مسودات الأفلام الصغيرة.
انطلق إيلي كوهين في رحلته.. ومضى إلى ميونخ ثم إلى مدينة جنوا في إيطاليا. ومن هناك في الأول من كانون الثاني.. أقلع كامل أمين ثابت في حجرة من الدرجة الأولى على ظهر الباخرة الإيطالية سونيا إلى بيروت.
شرع إيلي في تمكين نفسه بصفة عضو بارز في صفوة السوريين.. حتى أثناء رحلته بالسفينة من جنوا. فبعد إقلاع السفينة بوقت قصير.. اتصل الحديث بينه وبين رجل سوري عريض الجاه والثراء يدعى (مجدي شيخ الأرض) وقد برهن هذا على أنه حلقة وصل ممتازة.. فقدم إيلي إلى عدد من أولي الشأن في سورية وساعده بغير علم منه.. بأن أخذه في سيارته من ميناء اللاذقية إلى دمشق. وقد تمكن إيلي بالسفر في سيارة هذا الرجل الخطير من عبور الجمارك دون تفتيش.
(التقيت مجدي شيخ الأرض في سجن القلعة عام 1965 وكان يقيم في غرفة خمس نجوم والعديد من السجناء يقومون على خدمته).
استقر المقام بإيلي في شقة فسيحة بالدور الرابع من مبنى حديث في حي (أبو رمانة) المزدهر.. وكان المبنى ذو أهمية كبيرة لكوهين.. حيث يقع في مواجهة مقر قيادة الأركان السورية.
كوّن إيلي شركة استيراد وتصدير.. شهدت نجاحاً فور إنشائها تقريباً.. وقد أدار إيلي العمل بكفاءة.. حيث كان يرسل من سورية الأثاث القديم.. وطاولات نرد.. ومجوهرات.. وتحف فنية.
وكان إيلي إذا ما عاد إلى شقته في الليل.. يخلع عنه ثياب تاجر الاستيراد والتصدير الغني.. ويعود كوهين الجاسوس.. فبعد إغلاق الأبواب إغلاقاً مزدوجاً.. وإسدال الستائر.. يتناول جهاز الإرسال الصغير.. الذي خبأه في قدح نحاسي للزينة في داخل ثريا بلورية كبيرة.. ويمضي بذلك الجهاز إلى غرفة نومه.. حيث يكتب رسالته ويترجمها بالشيفرة.. ثم يبدأ نقرها بسرعة ودقة إلى تل أبيب.
وفي الأيام التي كان إيلي يلتقط فيها الصور.. كان حمام شقته يتحول إلى غرفة سوداء.. يجري فيها بعض العمليات على المسودات ويختزلها إلى أفلام مصغرة. وفي الغد كان إيلي يخبئها في القواعد المموهة أو السيقان المجوفة في هذه السلعة أو تلك من السلع المعدة للتصدير. وكانت تقارير إيلي وأفلامه المصغرة تشتمل دائماً على أمور تهم رؤساءه عن أوسع الناس نفوذاً في أوساط الحكومة والعسكريين السوريين.. ومن بين أصدقائه الكثر اللفتنانت (معز زهر الدين) ابن أخ رئيس الأركان (عبد الكريم زهر الدين) ومنهم (جورج سيف) المسؤول عن الإذاعة في وزارة الإعلام السورية.. والكولونيل (سليم حاطوم) قائد لواء المظلات.
استطاع كوهين بعد انقضاء شهرين على وجوده في دمشق أن يزود الموساد الإسرائيلي بمعلومات لا تقدر بثمن.. وكان في تفسيراته للتغييرات السياسية في دمشق من الدقة واستباق الحوادث الفعلية.. ما يجعل الموساد يقوم بإرسالها إلى رئيس الوزراء خلال ساعات قليلة من وصولها إليه.. وكثيراً ما اتخذ (بن غوريون) – رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك – قرارات مهمة في السياسة.. وهي قرارات قد تفصل بين الحرب والسلم بناءً على برقيات إيلي كوهين الموثوق بها.
يتبع