أقلامهم

بين دروب الهلس والجد

يذكر روبرت روتبرغ، في كتابه “علاج الفساد. القياديون يستطيعون محاربته”، أنه في بنغلادش 71 في المئة من أصحاب الأسر يقولون إنهم دفعوا رشا للحصول على خدمات من الدولة، فالشعار المرفوع هناك “لا نقود لا خدمة”، أيضاً يذكر أن 27 في المئة منهم دفعوا إتاوات كي يتجنبوا المضايقات الرسمية ومضاعفاتها، وهناك أكثر من 77 في المئة من البنغال أعلنوا أنهم دفعوا رشا للحصول على جوازات سفر، و75 في المئة دفعوا كي يسترضوا البوليس، و61 في المئة دفعوا ليحصلوا على أماكن في مقاعد الدراسة، و48 في المئة دفعوا للحصول على أحكام قضائية لصالحهم، و32 في المئة دفعوا للحصول على الكهرباء… في المحصلة النهائية هناك 68 في المئة من البنغال في دكا ومدن أخرى هم ضحايا الرشا والابتزاز المالي.

طبيعي في الدول الفقيرة النامية يكثر الفساد بنوعيه الصغير والكبير، فالرواتب غير كافية للعاملين في الدولة، وأجهزة الرقابة بدورها ضعيفة إن لم تكن بحد ذاتها فاسدة.

وحصل “كونسورتيوم” يترأسه ابن شقيق الرئيس روبرت موغابي عام 2001 على عقد لبناء مطار رئيسي في زيمبابوي، وهذا مثال على الفساد الكبير. ويذكر الكاتب روتبرغ أن الفساد يتفشى في دول تسود فيها روح العائلة والعشيرة، حيث تتمحور القيم الأخلاقية على الأسرة والقرابة، أما الدولة أو النطاق العام فلا يوجد استيعاب لها، أي إن الوعي الفردي بأهمية المال العام يكون متدنياً، فتلك دول حديثة بوجودها، وكانت تحت هيمنة استعمارية، ولم تتطور مؤسساتها بالقدر اللازم مثلما حدث مع الدول الأوروبية.

أيضاً يتوغل الفساد في دول تفجرت فيها الثروات الطبيعية، مثل النفط والغاز، دون عمل وجهد إنسانيين، أي دول الريع، وينمو الفساد حول مصادر تلك الثروات، فمثل تلك الثروات الكبيرة تمثل فرصة ذهبية للإثراء غير المشروع لمن يقوم باستغلالها، ومثال ذلك أنغولا ونيجيريا، وعندنا في مثل دولنا أمثلة لا تقل وضوحاً عن الحالة النيجيرية.

لماذا هناك دول وقفت قياداتها ضد تيار الفساد المدمر، ودول أخرى تاهت وغرقت في مستنقع الفساد والتخلف؟ لماذا دول مثل سنغافورة وبتسوانا، وقد كانت مستعمرات وفقيرة، استطاعت أن تنتقل لمصاف الدول المتقدمة، رغم ضعف مواردها الطبيعية؟ الجواب يكمن في إرادة وعزيمة قياداتها ونخبها السياسية، وهذا موضوع آخر يتعرض له الكاتب روتبرغ، أما هنا في مثل أوطاننا التي يطفو فيها على السطح الانتهازيون الفاسدون، فهم “فوق النخل”، بينما يهوي المخلصون الصالحون للقاع، فلسان حالنا يردد حكمة منسوبة لمحمود شكوكو “… مشينا بجد ملقناش تمن سيجارة… مشينا في الهلس بنينا عمارة…”، ولا عزاء للمخلصين الذين ساروا في دروب الجد بدول الفساد والهزل والنهب.