كتاب سبر

حكايتي مع ذاك القطري

في أحد العطل الصيفية ، وفي أحد فنادق القاهرة جالسا أتناول افطاري ، وكنت اتجاذب أطراف الحديث مع النادل ، وإذا بالنادل يقطع حديثه وينظر باتجاه رجل طاعن بالسن يغطيه الشيب من رأسه إلى أسفل وجهه ، وكان يصعد العتبات الأربعة المؤدية لحوض السباحة بصعوبة بالغة ومعه طفلة صغيرة لا تتجاوز الـ 3 أعوام .. جلس الرجل الطاعن بالسن بالطاولة التي بقربي، وسأل النادل عن سعر الساعة في حوض السباحة مع وجبة خفيفة لأجل تلك الطفلة والتي ظنناها حفيدته -وكانت لكنته خليجية-.. فأخبره النادل بالسعر ، فغضب الرجل وتلوّن وجهه وقال للنادل: ألن تكفوا عن النصب والاحتيال على السواح ؟! ، حاول النادل يقنعه ولكن الرجل الطاعن بالسن كان عنده اقتناع بأن هذا النادل كاذب ومحتال، وهنا تدخلت فقلت له: ما قاله النادل صحيح وأنا “زبون” قديم في هذا الفندق وأعرف الأسعار فاطمئن … وهنا هدأ الرجل، فسألني: من أي دولة في الخليج، فقلت له: من الكويت ، وسألته فقال أنه من قطر .. فتجاذبنا أطراف الحديث، وكان الرجل وقورا ومهذبا ، ولكن لفت نظري من خلال حديثه معي بأنه يكرر كلمة “أمي وأبي” في حكايات لم يدم عليها وقت طويل مع أن سنه قد تجاوز السبعين عاما !.. فقلت له باستغراب: أمك وأبيك ؟!! … وهنا ضحك ، فقال لي: كم تعطيني من العمر ؟،، قلت له: سنك في الـ 75 ، هل هذا صحيح ؟.. فأخرج هويته القطرية فكانت الصدمة، فالرجل في سن الـ 40 !.. فسكت وعلامات الحيرة تفضح محياي !!.. هنا قال لي: لا تحتار وسأحكي لك حكايتي.

قال هذا القطري الذي كنت أظنه طاعن بالسن، قال: كنت مبتعث من قطر لجامعة القاهرة، وكنت طالبا مجتهدا ، وفي اخر عام دراسي، تعرفت على بنت سفير دولة عربية في القاهرة وكانت فتاة محترمة ، ومع تخرجي بامتياز ، تزوجت منها وجئت بها معي لقطر، واستقبلتني وزارة الثقافة في قطر بمنصب رفيع .. واحتفل أهلي بزواجي وتخرجي وحصولي على المنصب وكانت الحفلة عامة ، هنا سمعت من خلفي كلمات من بعض المدعوين يقولون: شهادة جامعية ووظيفة مرموقة وزواج من ابنة سفير ! .. وأكمل القطري: بعد شهر من تلك الحفلة ، أصبت بصداع شديد ارهقني وجعل أيامي كلها ألم ومعاناة، فقال لي مسؤولي في العمل: أنت مجتهد، لذلك سأحتفظ لك بمنصبك حتى تعود إلينا وأنت بصحة وعافية، فأذهب بإجازة مفتوحة وعالج صداعك هذا، يقول ذهبت لأكثر من دولة وكان يرافقني في رحلة العلاج هذه، أبي وأمي -أظنه قال لي أنه وحيد والديه- وجميع تلك الدول قالت بأنها لم تتعرف على سبب صداعه هذا..ثم أردف قائلا: طوال هذه المدة التي كنت أعاني فيها من الصداع، كنت أضرب رأسي بالجدار كلما أشتد الوجع بي دون أن أشعر!… وقال لي بأنه ذهب للأردن وخلع أسنانه كلها وجعلها تركيب مؤقت لعلها سببا في هذا الصداع ولكن لا فائدة، فقال: ثم اتجهت لشرب الحشيش لعله يخفف من تلك الآلام ثم ندمت وتبت مستغفرا ربي .. ويقول: بعدها ذهبت مع أمي وأبي إلى ألمانيا ، وهناك قالوا له: لا يوجد تشخيص لمرضك ، فكل الفحوصات تؤكد أنك سليم ،ولا نعلم سبب هذا الصداع ولكن سنصرف لك حبوب هي من أقوى المسكنات ، والحبة الواحدة يدوم مفعولها 8 ساعات دون ألم ، وستستعملها طول حياتك حتى يتبين لنا سبب صداعك.

فقال: مع هذه الحبوب ، ومع محاولة تعودي على هذا الحال الجديد، تحول شعري كله إلى هذا البياض الذي تراه، وتركت وظيفتي، وأصبحت أكره رائحة العطور لأني اختنق منها، وأصبحت أغار على أهلي غيرة غير طبيعية وليست في محلها، حتى أنني الان جئت هنا مع طفلتي الصغيرة وتركت زوجتي وبناتي يذهبون للسوق لوحدهم لأني كلما ذهبت معهن، افتعلت مشاجرة في السوق لأن في مخيلتي أن جميع الرجال يريدون معاكسة زوجتي وبناتي .. ثم التفت نحو طفلته الصغيرة وهي تسبح في حوض السباحة، وبعدها التفت لي مبتسما وخجلا ثم قال: أتعلم إني احترق الان غيرةً من نظرة الرجال لهذه الطفلة !!

وهنا قلت له: أنت جربت جميع الأطباء ولكنك لم تجرب الذهاب لراق يرقيك ، فالقرآن هو العلاج ، فلعل تلك الانجازات والامتيازات الاجتماعية والوظيفية هي سبب كل ما أنت فيه، فالعين حق كما ذكرها الرسول ﷺ … وبعد ساعتين من الحديث معي، قام ليأخذ طفلته ويرحل ، فقلت له: هل تسمح لي بأخذ رقمك في قطر والتواصل معك والاطمئنان على صحتك ؟.. فوافق وكتب لي رقمه، وبعد عودتي للكويت لم أجد الرقم ويبدو أني أضعته وقد احزنني هذا كثيرا.

والخلاصة من هذه القصة… أولا: كم افتقدك أيها القطري الطيب وأتمنى من الله أنك وجدت العلاج المناسب لصداعك… وثانيا: سردت قصة هذا القطري ، حتى يعلم الجميع أن هناك أمراض نفسية هي أشد فتكا من الأمراض الجسدية على جسم الانسان، وأن الطب يقف عاجزا عن كشفها، مع أن أعراضها مشابهة لأعراض الأمراض الجسدية … فلا عليكم من السذج الذين يدعون بأنهم من أهل التنوير وهم في الحقيقة من أهل الظلام الدامس، لا عليكم من تشكيكهم بحديث “العين حق” وأن هذه مجرد أمراض لا دخل للعين فيها !.