آراؤهم

التاريخ بين الجاحدين و الحالمين

لا أحد في الخليج على الأقل ينكر فداحة الزلزال الذي أحدثته أزمة الخليج2017 بتوابعه التي تشعبت و ترهلت حتى امتدت إلى جوانب أخرى تسببت بمناكفات اقتصادية و اجتماعية و رياضية و تاريخية. لن نخوض في عمق الأزمة و تاريخ المشاحنة بين محاورها امتثالاً لدور الكويت المحايد بقيادة أميرها الشيخ صباح الذي قام بجهد للم الشمل أقل ما يوصف به هو أن ذاكرة التاريخ ستُخلده كعمل حكيم و شهم في زمن يموج بالمستهترين و المغامرين.
على أن الحقائق التاريخية التي استخدمت أو حُرفت لدعم مواقف المحاور الإقليمية (التي تشكلت أثر الأزمة) هي أكثر ما استوقفني من بين كل السجالات التي دارت بفلك أزمتنا الخليجية. و على أثر استحضار التاريخ لدعم المواقف وتبريرها ، انقسم المهتمون بهذا الميدان إلى فريقين متضادين محسوبين على محاور الأزمة و ما يدعمها من تيارات فكرية و سياسية تقليدية متناحرة فيما بينها.
الفريق الأول يتعصب للمبدأ الإنشائي الذي ينص على أن الأمم التي لا تدرك تاريخها وتستخلص منه العبر و الدروس لن يكون لها في المستقبل رؤية و هوية تتمايز بها بين الأمم. و الاستشهاد بحالة ملوك طوائف الأندلس المتمزقة واسقاطها على واقع أمتنا يعتبر من الأسلحة الثقيلة التي يملكها هذا الفريق و يستخدمه ضد خصومه. كذلك يرى هذا الفريق بنظرة حالمة للرموز التاريخية ذات الصبغة الدينية الوحدوية أمثال صلاح الدين و عبدالرحمن الناصر اللذان حاربا المحتل بعد أن وحدوا الأمة ، و أن لابد أن تستحضر سيرة هؤلاء الرموز و تستلهم تجاربهم لشحذ همم الأجيال الناشئة ، فتنشأ أمة عزيزة متسامية على جراحها و تحذوها آمال التحرر من أغلال الغرب و تهديدات الشرق ، فتعيد أمجادها وتكون فاعلة في الساحة الدولية لا أن تكون مفعولاً به.
على أن الفريق الثاني ينادي بفكرة التحرر من قيود التاريخ و أمجاده المنتفخة (كذلك يسمونه) ، حيث أن هذه الأمجاد التي تصدعت رؤوسهم منها لا تعدوا كونها منتحلة و مختلقة من مؤرخين لا يتصفون بالأمانة العلمية و البحث الكافي و مرتهنين لتيارات سياسية ذات اطار اسلامي. علاوة على ذلك فهم يرون بأن من يتغنى بأمجاد الأمة و رموزها لا يعدون كونهم عبدة أوثان تاريخية وحزبيين يستخدمون التاريخ لدغدغة مشاعر الناس لتأليبهم على واقعهم. من أشهرمنظري هذا الفريق هو الأديب الماروني أمين معلوف المتحدر من سلالة كاثوليكية مترهبنة ، و من أقواله ” فإن المبالغة في التغني بأمجاد الماضي التي لا فضل لنا فيها بل الفضل يعود لأجداد بعيدين (هذا على فرض أن كثير منهم كانوا أجدادنا، أصلا) عادة ما تكشف عن خجل من الحاضر، و يأس من المستقبل”.
في الختام ، ثمة حيّز بين الفريقين يتلخص بالإستعانة العقلانية للتاريخ الموّثق الرصين دون تضخيمه أو تحجيمه ، ليكون أداة نستشرف فيها المستقبل ، مع عدم إغفال معطيات الواقع المتأزم. فإن التشدق بالتاريخ المجيد و اللطم على ماضيه المشرق لن يجدي، و أسوأ من ذلك هو لعن ونكران تاريخ المسلمين و العرب و قراءته بعين أمين معلوف الذي قطعاً لم يتعبد ربه بمذهب مالك أو أحمد و لم تتوارث أسلافه أنساب مضر أو قحطان.

Alsaifi.dr@gmail.com