أقلامهم

بين اللوزة وقشرتها

لا بد ان ندرك ان جزءا من اشكالية البلد واستمرار تعثره وتعقد اموره، هو ذاك النمط من الشخصيات المتسوسة؛ اي ممن نخر فيها سوس الفساد وصار دورها ان تعمل على نشر ذلك السوس بأسرع وقت وبين اكبر عدد من الناس، خصوصا أنها قد هيأت بيئة وظروفا مناسبة لتنامي تمددها السوسي، وتحاول ان تبث سموم التحريض، وزرع سوس الكراهية بين مجاميع متعايشة من المواطنين، واشاعة مواضع الاختلاف، ولو كان تافها، بل اصطناع هذا الخلاف وتسخير اطراف تُمارس اختلافا بين طرفين او اطراف هم ليسوا على خلاف، بل وقدرة سوسية على اثارة الفتنة والكراهية السياسية والاجتماعية والاقتصادية واذكاء حالة مقلقة من التنافس المحموم غير الواقعي بينها.

لأن هذه الاطراف لا يمكن ان تعيش ولا تتنفس الا بهذه الاجواء الملوثة، وهو ما تحرص على ايجاده والابقاء عليه وبثه، بين كل اطراف ممكنة وفي كل حين، فهي في حقيقتها تجيد الدخول بين اللوزة وقشرتها دخولا ناعما تزرع من خلاله سوسها، وحينها تنخر تلك الاطراف من عمقها ومن داخلها.

ولو اننا تأملنا برؤية ثاقبة كل الاطراف الفاعلة في الحياة العامة لوجدناها جميعها قد لحقها الايذاء من تلك الشخصيات، فتلك الاطراف تخوض صراعا وخصومات ومعارك أقحمتها بها تلك الشخصيات، فصار همها ان تنتصر لنفسها وان تحشد وتعبئ وتتفرغ لمعركة كسر العظم وتحقيق انتصارات وهمية، وهي تظن انها تخدم البلد والعمل الشعبي والوطني فيه، واذا بها تهدم كل قيم ادب الحوار وثقافة الاختلاف وبديهيات استيعاب الآخر، وتخرب مفهوم التعاضد الوطني، الذي هو من اساسيات نجاح المشروع الوطني وانتشال الوطن من قلته، وقد تمكنت تلك الشخصيات المتسوسة من إذكاء روح الفرقة والاختلاف بينها، فصارت تلك الاطراف خاضعة لفكر البحث عن الاخطاء وتهويلها، وتصيد الزلات وتضخيمها، والوشاية، بل وانساقت للتحريض الذي تتفنن به تلك الشخصيات المتسوسة التي تلعب دورا ناعما في تحقيق مبتغاها، فها هو الليبرالي يبحث عن شماعة اخطاء التيار الاسلامي ليتكسب من ذلك، وترى كتلة العمل الوطني تعيب وتنتقص من ممارسات بعض التيارات الليبرالية لاضعافها ولتحل مكانها، وهناك تشاهد الاسلامي المنشغل بتعقب ممارسات قديمة او ثانوية للتيار الليبرالي ظنا منه انه يكسب بعدا شعبيا بمثل هذا المسلك، بل تجد التيارات الاسلامية بعضها متربص لهفوات البعض الآخر، توهما منهم انهم يكرّسون عملا وطنيا او يتقربون لله سبحانه، وكلا الامرين ظن خائب ومسلك معيب، ولقد تمكنت تلك الشخصيات المتسوسة من ان تتسلل بين هذه الاطراف كما تتسلل سوسة النخر بين اللوزة وقشرتها فتصيبها بهزال التسوس وتُعدي من يتناولها، بل تجعلها هشه سريعة التآكل والتحلل.

ولذلك فإنه من الاهمية بمكان للاطراف الوطنية ان تعي مسؤولياتها، وان تكون لديها المعرفة والادراك بتلك الشخصيات ومراميها وتمددها التسوسي، فإدراك ذلك شرط مهم لمعرفة كيفية التصدي لها وردها لموقعها الطبيعي بعد ان هيمنت على مواقع ما في السياسة والاقتصاد والثقافة ومؤسسات بالدولة. ثم تبدأ هذه الاطراف، التي أعماها، وبكل اسف، الصراع الزائف، في اتخاذ الخطوة التالية وهي التصالح مع نفسها ووضع الخلافات جانبا والتسامي في نمط العمل الوطني لتعزيز مكتسباته وتخليصه من شوائب الصراع الفارغ، ثم تقوم بالتصدي لتلك الشخصيات ورصدها وكشفها، ومن ثم عزلها، لأنها صارت متطفلة على العمل الوطني، استنزفت طاقاته، وفككت مؤسساته، واستهلكت ابداعاته، وزورت ارادته، واجهضت ثوابته ونجاحاته، وشتت تحركاته، ولذا فإن المشروع الوطني الملح اليوم هو في اعادة الاعتبار للعمل الوطني الشعبي واقصاء هذه الشخصيات قبل فوات الأوان وقبل ان ندرك اننا تأخرنا كثيرا حتى سمحنا لهذه الشخصيات ان توصل البلاد الى حالة اللارجعة.. فهلا انتفضت اطراف العمل الوطني من دون تباطؤ وبلا خوض في حالة من تقاذف الاتهامات والصراع غير المبرر، فقد كفى ما حل بالبلد؟!