محمد فاروق الامام
كتاب سبر

صراع الشقيقين على حكم سورية (الحلقة3)
الطائفة “المرشدية” ودورها بين “الأسدين”

كان الرفيق “محمد إبراهيم العلي” قائد الجيش الشعبي قد وضع أوراقه مبكراً مع العميد رفعت، ولم يكن هذا الموضوع ذي قيمة إطلاقاً قبيل الأزمة لأن كثيراً من المنافقين وبخاصة منتسبي “رابطة الدراسات العليا” كانوا يحومون حول “العميد رفعت” كما تحوم الغربان على بقايا الحيوان.
وكان من عادة الرفيق قائد الجيش الشعبي أنه كثير التجوال متطلع دائماً للجديد من الأخبار بعد ثورة الثامن من آذار ولم تزل هذه العادة تسكنه حتى الآن على الرغم من مرور أربعة عشر عاماً ونيف على الحركة التصحيحية وكان يمر على مكتبي بمعدل مرة واحدة في الأسبوع وكان يسأل دائماً عن أحوال الدنيا وكنت أطمئنه أنها بخير وهي ما زالت تدور.. وللأمانة التاريخية فإن ضباط القيادة العامة لم يكونوا يقدرون الرفيق “أبو ندى” حق قدره ولم يكن في القيادة سوى الرئيس الأسد وأنا نعرف نضال محمد إبراهيم العلي وتضحياته في سبيل الحزب والثورة من حركة الضباط الأحرار في حلب إلى حركة 23 شباط.. وكان هذا الموقف يؤلم الرفيق محمد ولذلك لم يكن يزورهم إلا لماماً.
بعد الحدث الجلل أقفلت مكتبي في وجه قائد الجيش الشعبي، وطلب مقابلتي عدة مرات وكنت أعتذر دائماً غير أنه ألح على المقابلة فوافقت أخيراً. ولما حضر سألني مستغرباً هذا الموقف منه.. وقلت له: في مثل هذه الأمور لا توجد حلول وسط فإما أن تكون مع الرئيس الأسد أو أن تكون في الجبهة الأخرى. فقال: أنا مع الرئيس حافظ الأسد (شيله.. بيله) وحتى أقطع الشك باليقين فإنني جاهز لكي آتي بأبناء الرب سليمان مرشد من “حمص” ومن “جوبة البرغال” لمقابلة السيد الرئيس.. فقلت له: وما أهمية الطائفة المرشدية في الأزمة؟..
قال لي: ألا تعلم أن العميد رفعت الأسد يعطي أهمية خاصة لهذه الطائفة فبالإضافة لشراكته مع ابن الرب “النور المضيء” والمهندس فؤاد تقلا بالأعمال التجارية فإن عدداً كبيراً من أبناء الطائفة انخرطوا في سرايا الدفاع تنفيذاً لتعليمات قيادتهم الروحية وهم يشكلون العمود الفقري لسرايا الدفاع ويأتي ترتيبهم بالأهمية بعد الشريحة العلوية مباشرة..
قلت له: توكل على الله ويجب أن أسمع في القريب العاجل أخباراً طيبة.. فأجاب: لا قريب ولا بعيد غداً سوف يكونوا بعد عدة ساعات في القصر الجمهوري.
وصدق محمد إبراهيم العلي في وعده واستقبل الرئيس حافظ الأسد في مكتبه أبناء الرب وفي مقدمتهم “النور المضيء” واستغرقت المقابلة ثلاث ساعات ونيف وما تسرب منها كان الآتي: قال أولاد الرب سليمان المرشد للسيد الرئيس:
نحن لا يمكن أن نكرس الخيانة كمبدأ للطائفة.. ففي الماضي اتهمنا الإنكليز بأننا عملاء فرنسا.. واليوم يتهمنا الوطنيون القوميون في سورية بأننا عملاء أمريكا نحن باختصار رجال حافظ الأسد وقد أحببنا أخيك رفعت لشعورنا بأنه جناحك الأيمن أما وأنه قد شق عصا الطاعة عليك فلا ولاية له علينا ونحن جاهزون منذ هذه اللحظة لأن نستلم مهمة الحراسة على مكتبك أو بيتك..
وكان جواب السيد الرئيس: لا لزوم لكل ذلك.. المهم أن تفهموا أبناء الطائفة بهذا التوجه الجديد “واليوم قبل بكره”..
وانصرف الإخوة الثلاثة من مكتب رئيس الجمهورية، وبطريقة تشبه السحر تم الاتصال بأبناء الطائفة كافة وأخذوا جميعهم التوجه الجديد.. وبدلاً من قلعة الأسرار التي لا تنتهك أصبحت سرايا الدفاع مثل الغربال يتسرب منها كل ما يحدث فيها.. وشعر رفعت بالحدث واستدعى إلى مكتبه كبيرهم “النور المضيء” وبقي يتحاور معه زهاء سبع ساعات لم يأخذ منه لا حق ولا باطل.. وأخيراً قال له رفعت بعد أن سئم من المناقشة والمماحكة: أتعرف أنك لن تكلفني سوى رصاصة واحدة في رأسك!.. فأجابه “النور المضيء” أعرف ذلك ولكن هل تعرف أن الطلقة الثانية ستكون في رأسك أنت.. ولمعلوماتك أن الحاجب الذي قدم لنا القهوة والشاي الآن هو من عشيرتي أي باختصار هو “مرشدي” وليس “علوي”.
هنا أنهى رفعت المناقشة على أمل اللقاء مرة ثانية للمتابعة.. ولكنه بدا كمن أصيب في مقتل.. وطلب إلى المسؤول عن التوجيه السياسي في سرايا الدفاع بأن يجري سبراً عشوائياً لمائة جندي “مرشدي” ويسألهم سؤالاً وحيداً: هل أنتم معي أم مع أخي الرئيس حافظ الأسد؟..
وفي اليوم التالي صُعق رفعت الأسد عندما جاءه الجواب بأن نسبة المؤيدين للرئيس الأسد مائة من مائة وليس تسعة وتسعين.
وبلغ الغضب أشده لدى رفعت ومحازبيه وصمم أن ينتقم من الطائفة “المرشدية” وأمر عناصره بأن يفتشوا عنهم في كل مكان وفي أي تشكيل وجمعهم قرب قلعة “برقش” شمال غرب مدينة “قطنا” وقام بتجريدهم من أسلحتهم الفردية وأركبهم عربات نقل عسكرية كبيرة وقذفهم على الحدود السورية اللبنانية-الفلسطينية وفي مواجهة الجيش الإسرائيلي مباشرة.. ولم ترد إسرائيل على هذا الإجراء لأن الجنود الذين في مواجهتم شبه عراة وكان الوقت ليلاً.
وعلى الفور أعلمت الرئيس الأسد بالأمر وأرسلت لكل واحد منهم بندقية ووحدة نارية مع كيس بحارة وتعيين عملياتي يكفي ثلاثة أيام.. وطلبت إلى اللواء جميل حسن رئيس شعبة التنظيم والإدارة أن يوزعهم على كافة وحدات الجيش.. من “القامشلي” إلى “صلخد”.. وكان عددهم ثلاثة آلاف ومائتين وخمس وعشرين ضابطاً وجندياً.
وخلال ثلاثة أيام تم تصفية ذيول هذه المشكلة ولكن العميد رفعت كان قد أصيب بجرح بليغ.. صحيح أن نسبة القوى والوسائط لم تكن في الأساس لصالحه لأن سرايا الدفاع كانت في ذروة الأزمة تعادل حوالي أربعين ألف عسكري، بينما باقي وحدات الجيش حوالي 360 ألفاً، ولكن خروج الطائفة المرشدية منها بهذا الشكل زعزع كيانها وهزّ بنيانها. ومن هذا الموقف المتشكل قرر العميد رفعت أن يؤدب أولاد سليمان المرشد في عقر دارهم أعني “جوبة البرغال”. فجهز لهذه المهمة كتيبة مغاوير وأركبها في سبع حافلات ووجهها باتجاه اللاذقية. وعندما علمت بهذا النبأ اتصلت برئيس فرع المخابرات العسكرية في اللاذقية العقيد أسامة سعيد وأعلمته بالأمر وقلت له: عليك أن تؤمن حماية “النور المضيء” بمفارز سريعة من عندك أو من الشرطة العسكرية وإذا لزم الأمر يمكن أن تطلب العدد الذي تحتاجه من الجنود من قائد القوى البحرية. فقال لي: سيدي لا نحتاج لأي مساعدة لأن حوالي خمسمائة مسلّح من الطائفة المرشدية أصبحوا متواجدين في “جوبة البرغال” حول قصر أبناء سليمان المرشد..
ومرة ثانية تؤكد الحقائق والوقائع أن أسلوب الاتصال لهذه الجماعة أرقى من أسلوب اتصال أي مخابرات في العالم حتى بعد استخدامها لأقنية الاتصالات في الأقمار الصناعية.
وصلت طلائع سرايا الدفاع إلى “جوبة البرغال” فوجدت أن الحراسة كثيفة حول بيت سليمان المرشد وأن المعركة لن تكون في صالحهم أبداً، وبعد أن اتصلوا بالعميد رفعت طلب إليهم أن يهبطوا إلى الساحل ويتمركزوا في معسكر “تلة الصنوبر” التي تبعد عن اللاذقية إلى الجنوب بحوالي سبعة كيلو مترات، ولم يحتج حلفاؤنا الجدد لأي دعم مادي أو عسكري، وبعودة الطائفة المرشدية إلى حمى الرئيس الأسد بدأت تتآكل سرايا الدفاع من الداخل ولم يعد لها تلك الهيبة التي كانت لها أيام زمان.
يتبع