كتاب سبر

تركية العثمانية وإردوغان.. ونحن!

ما الذي جرى في تركية؟ كيف نفهم تركية ونتعامل معها؟ لماذا يحب بعض العرب رجب طيب إردوغان وحزبه (العدالة والتنمية) ولماذا يكرهه البعض؟.. وهل لتركية أطماع في بلادنا تستعيد معها الخلافة العثمانية أو على الأقل السيطرة الاقتصادية علينا؟
في البدء يوجد جانب متصل بشخصية الرئيس التركي (إردوغان) وهو جانب إسلامي النزعة، فهو متدين ومحب للتاريخ الإسلامي بل ويصل شخصيا حد كونه داعية!
في قمة العشرين الأخيرة وفي اللقطة التي اشتهرت على نطاق واسع، حيث أمسك بخد الرئيس باراك أوباما قال له مداعبا: هل تضحك علينا!؟.. أنت مسلم مثلنا!
ولم يكتف بهذا، بل قال له إن اسمك اسم رجل مسلم فأنت باراك حسين أوباما وأهلك مسلمون!
وبالنتيجة هي مداعبة شخصية ولا شأن لها بالسياسة ولكن شخصا كإردوغان يعرف عمّ يتحدث، فأوباما لم يكن أبوه مسلما فقط بل وأمه أيضا، وهي أسلمت عندما تزوجت والده ومن يلتحق بالإسلام يكون أكثر اقتناعا من المسلم بالميلاد والدليل لا لبس فيه فهي تزوجت بعد والد أوباما من أندونيسي مسلم!.. وبالتالي واصلت قناعتها الدينية بينما أوباما في حضانتها.
وأوباما بهذا الحال ومع والديه (مختون) وعندما اشتد النقاش حول هذه المسألة كـ (جذور) في شخصيته خلال الحملة الانتخابية قال مدير مدرسته في جاكرتا بأن أوباما كان يصلي في مسجد المدرسة!
فلما ماتت والدته وتخلى عنه زوجها الأندونيسي أو آلت حضانته لجديه تم إلحاقه بالكنيسة وواظب على حضور قداس الأحد وتنصر متأثرا بجديه اللذان تعهداه من دون أن يكون الدين مسألة جوهرية في حياته وصولا إلى نيله الدكتوراة ومن ثم مسيرته السياسية.
بالنهاية فإن الرئيس الأميركي أيا كان دينه فهذا لا معنى له في رسم سياسات دولته فهو ليس أكثر من رمز يعلو مؤسسة لها مصالحها وقراراتها العالمية.
فدين الرئيس خصوصا في أميركا مسألة شخصية وإردوغان يعرف هذا دون شك، لكن مجرد فتحه للحديث مع أوباما بهذا المنحى يسلط الضوء على شخصيته المهتمة بالموضوع الديني، وهو ما يتعين أن يلقي بظلاله على سياسته من دون إغفال أثر الطبيعة التركية التي يسودها التصوف وهيمنت عليها العلمانية الأتاتوركية حتى أنستها دينها.
فأتاتورك حظر ليس الحجاب فقط بل حتى الأذان الذي لم يسمعه الأتراك إلا في ستينيات القرن الماضي عندما طرحه الرئيس عدنان مندريس على استفتاء شعبي!
وحتى بعد ذلك فإن الجيش قام بانقلاب على مندريس مع أنه علماني مثلهم ولكنهم لم يغفروا له حتى مسألة رفع الأذان للصلاة!
لماذا؟
لأن ضباط الجيش كانوا من العلويين وهذا ما فعله أتاتورك الذي كان بلا دين، وكذا وحزب الاتحاد والترقي القومي المتعصب، الذي ألغى الدين من حياة الأتراك، فسلم قيادة الجيش (حارس العلمانية) للعلويين الذين لا يعرفون الأذان ولا علاقة لهم به، ليحدث التغلغل العلوي في الجيش وبشكل ممنهج وهو ما انتهى الآن بسيطرة الضباط السنة على المناصب العليا في الجيش، وتحجيم دور العلويين فيه وآخر جنرالاتهم (إسماعيل حقي) المسجون بتهمة بمحاولة الانقلاب.
انضم إردوغان ورفاقه للحزب الذي كان إخوانيا بزعامة (والد) التيار الإسلامي الحديث نجم الدين أربكان الذي صار رئيس وزراء ثم انقلبوا عليه.
وعندما تم حل حزب (الرفاه) وزُجّ بأربكان بالسجن أسس إردوغان ورفاقه الشباب حزبهم الخاص خارجا من مظلة الإخوان وبعقلية جديدة خرجت من مبادئ الإخوان التي وضعها حسن البنا ثم سيد قطب وظلت جامدة دون تعديل أو تغيير فيما يتصل بالدعوة أو ممارسة السياسة وأدواتها المختلفة.
وأعطى إردوغان ورفاقة المسألة الاقتصادية الأولوية ثم عملوا على ضم ائتلاف عريض للحزب من التيارات القومية والإسلامية الأخرى وأفسحوا لها أدوارا مهمة انخرطت بالعملية الاقتصادية التي قامت على أكتاف الطبقة المتوسطة وبحلول تندرج في نطاق التزام مبادئ العلمانية وبصيغتها الأتاتوركية وهي صيغة لا تحيّد الدين أو تجعله مسألة بين العبد وربه كما هي في الغرب مع دولة مسيحية عميقة!.. ولكنها تناهض الدين وتضطهده مع أنه دين الأغلبية.
لكن التصادم الدعوي والعقائدي مع (المؤسسة) العلمانية الأتاتوركية (الكافرة) وحارستها المؤسسة العسكرية (العلوية) التي يهيمن لم يكن هو الحل (الممكن) وإنما اكتساب الشرعية عبر الاقتصاد وتغيير أنماط معيشية عبر التصويت النيابي والتدرج في إصلاح مؤسسات الدولة وعلى رأس ذلك تحييد الجيش.
ولم يكن هذا ممكنا إلا عبر إقناع الناس بأن تركية عبر خيار إردوغان تتقدم وتنمو وتزدهر وتحقق معجزة اقتصادية عملاقة، الأمر الذي تحقق فعلا ليتم قهر العلمانية من خلال تغييرات في نمط المعيشة منها التدرج في (شرعنة) الحجاب وحظر الخمارات (لا منعها) من عند جوار المساجد وكذا فتح التعليم الديني، وليتم ذلك من دون منح الجيش أي مبرر للانقلاب بما في ذلك بقاء العلاقات مع إسرائيل والبقاء ضمن حلف الأطلسي حيث جيش تركية يمثل 23% من قواته، ليسفر انسداد أفق الالتحاق بالاتحاد الأوروبي عن استدارة تركية نحو الشرق مع الحصول على امتيازات التعامل التجلري مع أوروبا واستغلال قوانين الاتحاد الأوروبي ضد عسكرة الدولة وفرض مدنيتها الكاملة، ومن ثم قصقصة أجنحة مؤسستي الأمن والجيش وسد الطريق أمامهما عن التجرؤ على الانقلاب.
ويضم حزب العدالة أجنحة مختلفة متجانسة لكن أولوياتها متنافسة أو متسابقة، على أن منها جناح يمثله رئيس الوزراء الحالي (أوغلو) له طموحات مشرقية مثيرة لـ (الهواجس العثمانية).
بطبيعة الحال فإن زمن الخلافة العثمانية لم يعد صالحا، ولكن ما زال هناك من يعتقد بأن تركية دولة عظمى ويمكنها الهيمنة على منطقتها كالعثمانيين، ليتقاطع ذلك مع مجريات الربيع العربي عندما ظن الأتراك أن هيمنة جماعة الإخوان على دول المنطقة معناها قيام نوع من السوق المشتركة التي تتصدرها تركية، وهو ما أدى للمواقف التي نراها والتي تركزت تحديدا في المسألة المصرية حيث وقف إردوغان موقفا راديكاليا ضد الانقلاب العسكري ما أدى لتضرر علاقاته بعدد من الدول العربية التي دعمت الانقلاب.
وقد تم تجاوز هذا بمجيء الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى الحكم فتم تحييد موضوع مصر عن تجدد علاقة تقل عن حد التحالف وتزيد عن مستوى التنسيق بين السعودية التي تقود تحالفا عربيا يناهض المشروع الإيراني وبين تركية مع بقاء موقفها من مصر كما هو فالسعودية وتركية في حاجة متبادلة في المسألة السورية وبما يتصل بالعراق لاحقا ومهم التأييد التركي للسعودية في مسألة اليمن.
بقي أن نلاحظ أن إردوغان قدم تنازلات كبيرة للأكراد فاللغة التركية كانت محظورة حتى في الشارع واليوم في تركية تسع فضائيات ناطقة باللغة الكردية، هذا فضلا عن إجراء تعديلات كثيرة على الدستور وسن قوانين تصد (التغول) العلماني ضد الدين مع بقاء الأولوية للاقتصاد.
على كل حال فالدول ليست هي من يحدد طبيعة نظم الدول الأخرى، والعلاقات هنا هي الابن الشرعي للمصالح المتبادلة فالأمر لا علاقة له بالهوى والعاطفة وأيا ما يكن الأمر فالعالم العربي لم يعد قابلا لهيمنة الترك، أو غيرهم، وإذا كان المعيار إسلامي فالأولى بالقيادة هم رواد الإسلام.. العرب.