كتاب سبر

نحن و”الجاميّون”.. من منا يحك الجبهة؟!

كنت قد وعدت بنشر هذه المقالة في جريدة الجريدة وإفساح المجال لمن أراد الرد من المختلفين معي في الرأي، لكن حكاية مواعيد النشر على أيام معينة، ومحدودية المساحة، ستجعل هذه المعركة الفكرية مترهلة ومتباعدة ولا تحقق أهدافها، ففضلت نشرها هنا في سبر، حتى “لا يبرد الخبز”..

تفضلوا المقالة وسيتم نشر ردود المخالفين في المكان ذاته:

هو موضوع مثل خيط النسيج، كلما شددته لتصل إلى نهايته انفرط وطال، أتحدث هنا عن اختلافنا مع مشايخ السلطة وأتباعهم، سواء في الكويت أو في أي بلد آخر، ولا أدري من أين أبدأ، لعل البدء بشتائمهم لكل من خالفهم الرأي يثير فوضى الأفكار ويعيد رصها، علماً بأن منهم من يعف لسانه عن الشتم، ولا يقبل إلا بقرع الحجة بالحجة، لكن غالبيتهم ليست كذلك…

أنت ضال، إمعة، رويبضة، خارج عن الملة، باحث عن متاع الدنيا، ونعوت وصفات أخرى وشتائم لا حصر لها يطلقونها عليك، رغم أن الدين يدعو للتلطف حتى مع غير المسلمين، فما بالك بالمسلمين. وقد نقبل شتائمهم كلها إلا “إمعة”، فأنت عندما تتحدث مع أحدهم ستفاجأ بأنه يفاخر بتبعيته لبعض المشايخ الفضلاء، ويعيب عليك استخدام عقلك، وحك جبهتك للتفكير، ويسخر منك إن فعلت ذلك، فتسأله مندهشاً: “إذاً من هو الإمعة بيننا؟” فيأتيك الجواب على هيئة لكمة تسقطك خارج حلبة الدين، ويطلق الحكم صافرته.

تصرخ في وجهه: “الدين ليس شركة بمجلس إدارتها ونسب ملكيتها، الدين لنا جميعاً، كلنا ننطق الشهادتين ونستقبل القبلة ذاتها في صلاتنا، ونختلف في فهمنا وتفسيرنا للآيات والأحاديث والأدلة، فلا تكفرنا ولا تطعن في عقيدتنا لأننا خالفنا علماءك”، فيصر على أنك إن لم تتبع الشيخ فلانا وفلانا وفلانا في كل ما يقولونه فإنك مخالف للشريعة، مبتدع، فتضرب له الأمثلة على أنهم خطاؤون كسائر البشر، وتذكّره بـ”تحريم الساتالايت” في سنوات مضت قبل أن يتزاحموا عليه اليوم، فيلف ويدور قبل أن يعترف بأن “الساتالايت بلاء ابتليت به الأمة”! وهو اعتراف لا علاقة له بموضوع عصمة المشايخ من الأخطاء ووجوب عدم تأليههم واتباعهم بعميانية، فالرجال تُعرف بالحق لا العكس. وفي خضم النقاش تهمس في أذنه: “لا تقنعني بصدقية رجل دين يجالس أباطرة الفساد والظلم، كما نشاهد في الشاشات، ويتبادل معهم الضحك، ثم يدّعي أنه يناصحهم في السر! كان من الأولى، على الأقل، ألا يجالسهم ويبادلهم الضحكات”، فيهمس بتبعية فاخرة: “لعله يرى ما لا نراه”!

ولطالما تفادينا الاصطدام بأتباع منهج “مشايخ السلطة”، فليسوا هم خصمنا، كما كنا نعتقد وقتذاك، قبل أن نكتشف أنهم سياط في يد السلطة ترفعها وتهوي بها على ظهورنا فتؤلمنا، ولن أبالغ إن قلت إنهم أكثر أسلحة السلطة الفاسدة فتكاً بالأحرار، صدقاً هم أخطر من قنابل الغاز ومن الرصاص المطاطي ومن قنوات الفساد ومن الملاحقات القضائية، ولا يفرح بتصريحاتهم ومواقفهم وهجومهم علينا أحد كما يفرح دشتي بشار وبديعي حيدري وفجرية الغجرية وأمثالهم، بل ومخابرات الشرق والشمال، لحرصها على استمرار الوضع الحالي، حتى وإن لم يقصد مشايخ السلطة وأتباعهم ذلك.

ويغضبون إن قلنا إن لهم رتباً ورواتب في أجهزة أمن الدولة، ويطلبون الدليل فنحيلهم إلى وثائق أمن الدولة في مصر، وفضائح أشقائهم في الفكر والمنهج هناك… إذن لماذا تستشهد بمصر تحديداً؟ الجواب: لأن جهاز أمن الدولة هناك هو الجهاز الأمني العربي الوحيد الذي تم الهجوم عليه من قِبل الشعب الغاضب، وكُشفت محتوياته، وأزعم أنه لو تم الهجوم على أجهزة أمن الدولة في كثير من الدول العربية لوجدنا ما يشبه ذلك. وكما ساور الناس الشك في مواقف بعض النواب “القبيضة” وأنها بمقابل، وتبين لاحقاً صدق شكهم، ها هي ذات الشكوك تساورهم الآن حول بعض مشايخ السلطة وإعلامييها وجل مؤازريها بأنهم شربوا الشاي بالياسمين من يد السلطة الكريمة.

غريب أمر مشايخ السلطة، والأغرب أمر أتباعهم.. ما إن ترفع صوتك غضباً من تفشي الفساد والظلم، وتهاجم المفسدين، حتى يخرجوا إليك رافعين سباباتهم: “اتق الله يا ضال يا مضل يا مفتن يا مبتدع يا مفتتن بالدنيا وزخرفها يا يا يا”، فلا هم استنكروا الظلم والفساد، ولا هم سكتوا عنا، بل شكلوا حاجزاً أسمنتياً بيننا وبين السحاب والمطر، فأقحلت أرضنا وذبل زرعنا.

تبحث عنهم، وتضع أذنك على كل جدار لعلك تسمع أصواتهم إذا ما نعق ناعق، أو تجشأت فريحة، وأطلقت للسانها العنان فشتمت الناس وشككت في مواطنتهم، فلا يأتيك من “الجاميين” إلا صمت القبور… تنتظر بيارقهم تظهر من خلف الجبل دفاعاً عن الناس الذين أهينت كراماتهم وشُتمت أعراضهم وسُب آباؤهم وأمهاتهم، فلا جبل ولا بيارق… تبحث في أوراقك المكدسة عن رسالة منهم تعلن رفض سرقة أموال الناس، فلا تجد حرفاً واحداً… يا صاحبي أرح نفسك، ولا تضع أذنك على كل جدار، ولا تنتظر بيارقهم، ولا تبحث في رسائلك المكدسة، فلن تجد ما يسرك، لكنك ستراهم بأم العين شاهري سيوفهم عليك إذا ما صرخت غضباً وقهراً على ضياع حقوقك، طبعاً باسم الدين، كما يدّعون، وباسم السلطة كما ندعي نحن.

عن نفسي، لا يمكن أن أصدق أن ديني يدفعني ويدفع الناس إلى الخضوع والاستكانة والخنوع بعجزٍ يثير الشفقة أمام الظلم والبطش وامتهان كراماتهم والتعدي على أموالهم، بحجة الصبر على البلاء، فالفساد ورم، وما لم يتم استئصاله بسرعة سينتشر في سائر الجسد… أبداً، الإسلام ليس دين خنوع، ولا يحاول أحدكم إقناعي بذلك، فلا يمكن أن يقبله عقلي. أكرر “عقلي”، عقلي أنا لا عقل غيري، فأنا وآخرون كثر نرفض تسليم عقولنا لكائن من يكون، إن قال يميناً قلنا يميناً وإن قال يساراً فيساراً، نحن فقط نتبع ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية، ولا أظنهما حكراً على أحد.

هي آية وحديث، استطاعت السلطات الفاسدة في البلدان العربية جعلهما “منهج حياة” دوناً عن بقية الآيات والأحاديث والسير التي تدعو إلى الكرامة ورفض الظلم. أما الآية فهي “يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” وأما الحديث فحديث حذيفة بن اليمان، ومنه “وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك”، (والحديث أطول من ذلك)، وتقول لهؤلاء: “إن بيننا وبين الأسرة الحاكمة عهداً وميثاقاً هو دستور 1962 فنكثوه ونكصوا على أعقابهم وحنث وزراؤهم في قسمهم الدستوري، فلماذا لا تذكرونهم بالآية “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا” كما تذكروننا بآية الطاعة؟ أو لماذا لا تناصحوننا سراً كما تفعلون معهم؟ لماذا تقريع المظلومين علناً جائز وتقريع الظالمين علناً لا يجوز؟”، تقول ذلك فيرد عليك أحدهم: “حتى لا نوغر صدور ولاة الأمر!”، أي أن صدرك أيها المواطن قابل “للوغر” ولحمك حلال للأكل، بينما صدور أبناء الأسر الحاكمة حساسة مترفة، ولحوم المشايخ الذين يفتون بذلك مسمومة! أنت في الدرك الأسفل أيها المواطن البسيط، فاحترم نفسك يا وضيع يا إمعة يا مفتون بالحياة وزخرفها يا يا يا… هو تقديس متبادل بين السلطات ومشايخها. ولو سألتهم عن مناصب ولاة الأمر ومن هم؟ لاختلف بعضهم مع بعض، فبعضهم يرى الوزراء والقضاة ولاة أمر، بالإضافة طبعاً إلى كل أبناء وبنات الأسر الحاكمة، وبعضهم يقصر الأمر على الأسر الحاكمة فقط، كبارها وصغارها، وبعضهم يقصره على الحكام فقط… وهم جماعة تساير الحكام، وتتلمس رغباتهم، وعلى استعداد للذهاب إلى أبعد مدى، وقد أفتى بعضهم بضرب أعناق المعارضين في مصر بحجة الخروج على الحاكم حسني مبارك، واليوم يفتي بعضهم بضرب أعناق المعارضين للرئيس المصري الحالي محمد مرسي. ومصر ملأى بالجاميين الذين يرفعون شعارات جاميي الجزيرة العربية ذاتها ويتحدثون باللسان ذاته.

وقد اصطلح الناس على تسميتهم بـ “الجاميين” أو “أتباع الفكر الجامي”، نسبة إلى المرحوم محمد أمان الجامي، ويرفضون هم ذلك، ويسمون أنفسهم أتباع السلف، بيد أنهم سينتفضون عليك إن أعلنت رفضك لمنهجه، وسيشتمك بعضهم وسيحاججك بعضهم  الآخر. ولا تندهش إذا بحثت عن انتفاضة هؤلاء فزعة لمظلوم أو انتصاراً لمغبون فما وجدت، هم هكذا متخصصون في الدفاع عن فساد السلطات وتغليفه بالدين، ويرفضون وسائل الاحتجاج العلنية، فتشير بإصبعك إلى أوروبا صارخاً “يا سادة، لا يكاد يمر أسبوع لا تخرج فيه مسيرات احتجاجية في أوروبا، وها هم الأوروبيون يواصلون تفوقهم يوماً تلو الآخر، لم تتعطل مصالح العباد، ولم تثر الفتن في البلاد”. تقول ذلك فتأتيك إجابتهم العتيدة التي تريح أدمغتهم من التفكير وجباههم من الحك: “نحن في الجنة وهم في النار”. فتذكرهم بمشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في مسيرة احتجاجية قبل مبعثه، وحادثة “حلف الفضول”، وكيف انتزع المصطفى ومن معه الحق من الظالم وأعادوه إلى المظلوم، وكيف يفخر رسولنا بذلك، ويعلن أنه لو تكرر الأمر في الإسلام لفعله، أي لشارك في مسيرة الغضب… فيرد عليك الجاميون: هذه ليست ضد حاكم بل ضد متنفذ، وهناك فرق! وتسألهم: ماذا لو خرج الناس كلهم ولم يقعد منهم أحد في مسيرة احتجاجاً على تفشي الفساد والظلم، هل سينجح مسعاهم ويسود العدل؟ فيقولون لك: نعم نتوقع ذلك، لكن من يضمن خروج الناس كلهم؟!… إذاً المبدأ صحيح فلماذا ترفضونه؟ ولماذا لا تعيدون قراءة الآية “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض”؟

ويصرون على أن الدين رسم كل التفاصيل، والمشايخ هم من يعلم هذه التفاصيل، لذا وجب اتباعهم، فلا تحاجج فإن “من تحدث في غير فنه أتى بالعحائب”، فترد عليهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم “أنتم أعلم بأمور دنياكم”، وتضيف، إذا كان الأمر يعتمد على التخصص فأرجو ألا تزاحموا، أنتم لا نحن، الفلكي في فلكه ولا الفيزيائي في فيزيائه ولا الكيميائي في كيميائه، فلكل تخصصه، ثم إن الدين وضع القواعد العامة، وترك التفاصيل الدنيوية للناس تسوس أمورها بما يرضيها، فلم يرد في الدين شيء عن قانون الجنسية والجوازات، مثلاً، ولا قانون رخص القيادة، ولا قانون التأمينات الاجتماعية بتفصيلاته وتعقيداته، ولا ما شابه، فلا تحملوا الدين تفاصيل تلك القوانين وثغراتها واعوجاجها.

ثم إنكم تتهمون المعارضة بالتحزب “تشكيل الأحزاب”، في حين تضم المعارضة تيارات مختلفة، منهم “الإخوان المسلمين” والليبرال وحزب الأمة ومجموعة من السلف وعدد من غير المنتمين آيديولوجياً وآخرون من تيارات سياسية مختلفة، بينما أنتم تيار فكري واحد، أي أنكم أنتم المتحزبون، علماً بأننا لا نتبرأ من التحزب، بل ندعو إليه، وفي هذا حديث يطول.

ثم إننا لا نشكك في عقيدة أحد نطق الشهادتين، في حين تشككون أنتم في عقيدة الإخوان المسلمين ومنهجهم، طبعاً ما لم يكونوا ينتمون إلى الأسر الحاكمة، إذ يصبحون حينها من ولاة الأمر المعصومين عن النقد.

بقيت نقاط ثلاث سأطرحها على هيئة أسئلة وأنتظر إجابتها منكم تفضلاً: الأول، من هم ولاة الأمر.. وهل يشمل هذا التعريف الوزراء والنواب والقضاة وكبار الموظفين أم يقتصر على أبناء الأسر الحاكمة؟ السؤال الثاني: هل يمكن أن تأتونا بدليل قطعي واضح على وجوب الخضوع والخنوع لولاة الأمر مهما فعلوا؟ السؤال الثالث: عندما تتهمون المعارضة بالبحث عن زخرف الدنيا.. هل تقصدون البحث عن الأموال والقصور والممتلكات أم تقصدون البهرجة والرياء؟

وسأختم بلسان حال كل سلطة فاسدة: “أعطني جاميين وسأعطيك فساداً بلا حدود”.