كتاب سبر

“أَفْيَنَةُ العقول”..(1)

أشتُهرت مقولة لينين”الدين أفيون الشعوب”،وطارت بهاشعوب الأرض من أقصاها إلى أقصاها لتصبح رمزاً لرفض سلطان الفرد.
ولقد قال لينين مقولته لما رأى أن كل محاولة إصلاح ينجح قيصر روسيا في إفشالها،يكون لرجال الدين نصيب من هذا النجاح،لترجع شعوب إمبراطوريته إلى غطيطها وخدرها.
ولاشك أن في كل دين مايصلح للتخدير إذا ما”أحسن”رجال البلاط استعماله،فمفردات”الفتنة والخوارج ووجوب طاعة ولي الأمر”ذات مقصد ومعنىً واحد وإن تعددت الأديان وألسنتها،فهي “كبسولة واحدة لشركات مختلفة”.
ولاشك أن رجال ديننا وجدوافيه مالم يجده هؤلاء في توراتهم ولا إنجيلهم
فعندنا من الكتاب أدلة،ومن السنة أدلة، ومما اختلف فيه من الأدلة أدلة،ثم بعض النصائح أثناء”الاستعمال”،مايمنع”الأعراض الجانبية”،كالصبر على البلاء،واحتساب الأجر،وغير ذلك من المهدئات.
ثم لم ينس البلاط أن يستعين بالأكابر لترويج الحاجة الماسة لمثل هذه الكبسولة.
وليس ذلك بمستغرب لأن من كان ضمن حاشية البلاط،أو كان ضمن وظائف الحاشية سيكون بيانه للدين، ماتقرره اللوائح الداخلية وما يتماشى مع “روح البلاط”لكن الغرابة فيمن يسلم عقله لهؤلاء يعبثون كيفما شاءوا بناصيته!!
إن ترويج الأكابر لبعض الآيات والأحاديث على إطلاقها،وحصر المسلم بين طاعة السلطان أو الفتنة لهو تفويض إلهي للسلطان باستذلال الإسلام،واسترذال المسلم.
إن من أعجب ماقرأت مما يروج له دعاة التفويض الإلهي هذا الحديث
الذي رواه مسلم عن حذيفة:
يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي،
وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس
قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله – أن أدركت ذلك ؟ 
قال : (( تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع )). 
لا أعلم أي دين بل أي مروءة، بل أي عقل يقبل بهذا الحديث على إطلاقه؟!
وأي ذلة سيبلغها هذا المسلم حين يتخلى عن حريته وملكه،بل ويلغي عقله لمجرد أمر من السلطان؟!!
ماذا لو أمر السلطان بأن يتخلى له الرجل عن زوجته؟!
سيقولون مالم يأمر بمعصية…جميل.
وماهي ضوابط هذه المعصية التي تلغي هذا التفويض الإلهي الذي الأصل فيه الطاعة،والعقل فيه مُلغى،وباب التأويل مُشرع؟!
إن دعاة الطاعة سيتأولون لك من”الطاعة أو المعصية”مايحصرونك بينه وبين الفتنة لتسمع وتطيع،فلو جار السلطان فأطعت وصبرت فلك الأجر،وإلا فلك الفتنة إن رفضت.
بهذه الاستغفالية في التأصيل لهذا التفويض اللامشروط لولي الأمر،ستتعطل،وببساطة تعادل هذا الاستغفال أو تفوقه،رقابة الأمة على الحاكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،لأن المعروف سيكون ماعرّفه السلطان،والمنكر سيكون ما أنكره،وبمعنىً يناسب هذا المعنى”إني أعلم مالاتعلمون”.
إن من أهم أعمال الأمة اليوم،إرجاع هذا التفويض إلى شروطه التي فُرّغَ منها،لتُنزع منه إلهيته ويعود تفويضاً مسؤولاً.
لكنًّ دوننا وذلك تفويض آخر قام عليه هذا التفويض،وهو تفويض من دعى لهذا التفويض،و هو أساس المصاب..وخشية الإطالة أرجئ الكلام إلى مقال آخر.