كتاب سبر

الاتفاقية الأمنية.. والاتفاقية الأُمنية

قبل أسابيع كنّا جلوساً حول “الوجار” في بيت الشعر، نلوذ ببعض ماينسينا بعضًا من هموم الأمة وآلامها التي صارت لازماً غير منفك في حياتنا، والتي تأبى لو أردنامنها الهرب إلا أن تفسده علينا لتردنا إلى ماكنا نرغب بالهرب منه.. وقد كان حديثاً سياسياً ألهب صراحته اطمئناننا لأمانة المجلس، وما ننعم به من حرية.. وفي خضم الحديث واختلاط لهبه بلهب الوجار، لم نلحظ افتقادنا لضيفنا الخليجي الذي جاء بصحبة أحد الإخوة، فقام صاحبنا يبحث عن صاحبه ليجده في الخيمة القاصية، يجلس وحيداً، ولما سأله عن ذلك أجابه معتذراً بأني أخاف أن أجلس في مجلس فيه مثل هذه الصراحة السياسية.
إنني أعلم كما تعلمون أننا لا نتمنى أن نعيش مثل هذا الخوف، ولو جاء تصنيف شعبنا بأنه “أسعد الشعوب”.. لا نريد أن نستبدل حريتنا بالكونكريت والزجاج، لا نريد أن نفتقدها بوجود المرتبات العالية، ولابتوفر السكن بمجرد طلبه.. لانريد هذه السعادة.. لانريد سعادةً بصمت الحملان.

هذه هي مشاعرنا ومشاعر من تجمعنا معهم المجالس حينما يثور النقاش حول الاتفاقية الأمنية بين دول مجلس التعاون، لمكافحة الجريمة، محور حديث المجالس هذه الأيام. من منا لا يكره الجريمة؟ ومن منا لا يود اتفاق دول خليجنا عملياً ولو جزئياً؟ ومن منا من لايريد مكافحة الجريمة؟ لكننا لابد أن نتفق على مفهوم للجريمة.
فمن الجريمة ما يُتفق عليه بين الحكومات والشعوب، ومنه ما يكون جريمة عند الحكومة، ما ليس بجريمة عند الشعوب، ومنه جريمة عند الشعوب ما ليس بجريمة عند الحكومات، وضابط ذلك كله الدستور في حكومات الدساتير، وأقول “حكومات الدساتير” لأن هناك فرقاً بيّن بين حكومات الدساتير، ودساتير الحكومات، فحكومات الدساتير تسير وفق دساتيرها، في حين تسير دساتير الحكومات وفق حكوماتها… وحيث لادستور “عمليًا” يتم بواسطته تكييف الجريمة، فسيكون التكييف “بما تقتضيه المصلحة رسمنا بالآتي:..”وبرهاني لما أقول ابتداءً، أن الاتفاقية الأمنية التي مقصودها الأعظم”حفظ أمن الشعوب”، لم تعلم بها الشعوب، ولم تستشر فيها الشعوب، ولن تبُتَّ فيها الشعوب
وكأن الشعوب “حلال من الحلال”.
لنعد إلى الكلام عن محور الاتفاقية وهو مكافحة الجريمة، لأقول إن مجريات حوادث الربيع العربي، قد صبغ مفهوم الجريمة بقلق دول الاتفاقية حول تداعياته، لنجد أعمالاً إنسانية، وأخرى مشروعة قد جُرمت، كالإغاثة والجهاد.. هذا فيما يتعلق ببعض معاني الجريمة، تبعًا لهذه المجريات، لكن هذا التوسع ليس بشيء أمام التوسع في معاني الاتهام
في المادة “16” حيث تنص على أن: “تعمل الدول الأطراف وفقاً لما تقضي به التشريعات الوطنية، والاتفاقيات التي تلتزم بها الدولة الطرف المطلوب منها التسليم، تسليم الأشخاص الموجودين في أقليمهاالموجه إليهم اتهام…”.
إن تعبير “التشريعات الوطنية” بمنطوق المادة “16”، و”العصابات الإجرامية” بمنطوق المادة “9”، في غياب حكومات الدساتير التي ليس منها واحدة من الدول الأعضاء، من الممكن أن تطال كل شخص”غير وطني”، وحيث صبغة القلق السائدة، فسيكون مرشحاً لهذا التوصيف، أعني”العصابات الإجرامية”، كل متعاطف مع مجريات الربيع العربي، قولاً وفعلاً وشعوراً، وبالأخص الجماعات الإسلامية المعارضة وفي المُشاهد من الفتاوى والمراسيم مايكفي.
وإن مما نصت عليه المادة “16”من التزام الدولة الطرف، بتسليم الأشخاص الموجودين في إقليمها “الموجه إليهم اتهام”، سيفتح الباب على مصراعيه لخنق ما تبقى للكويتي ما يفتقده غيره”كضيفنا”، وهذا أمر يجب أن يقف الكويتي عنده طويلاً بعيدًا عن تَحَمُّق البعض ممن يصف هذه الاتفاقية “بأنها مما يقتضيه الشرع”.
إنني أعتقد، باستقراء غير مقصود، يكاد يكون تامًا، أنه لو كُتب سطر بعد الاتفاقية، مما أكتبه اليوم قبلها، سيجد كاتبه فسحة من ذمة التحقيق لإتمامه ولكتابة غيره، وغيره بانتظار التحقيق، لو التزمت دولتي الطرف بتسليمه، قد يغتر البعض بقول البعض إن الاتفاقية الأمنية لاتتعارض مع الدستور.
وأقول سيكون ذلك صحيحا فقط حسب ظواهر النصوص، ويا بعد ما بين الظاهر وتفسيره، إن ماتعيشه حكومات الخليج من قلق بتداعيات الربيع العربي، أفقد بعضها اتزانه، سيجعل من مادة هذا القلق خيالاً خصباً للتوهم، وحيث لاضابط أو بضابط مُتَوَجَّه فسرعان ماسينقلب هذا الوهم حقيقة، وبه ستنقلب الحقائق أوهاماً وسيكون المرجح بعدها..تفسير”ماتقضي به التشريعات الوطنية”.
وبعد.. فإن في معاهدة “فيينا” المعمول بها دولياً، بما فيهم دول الخليج، ما يغني عن مثل هذه المعاهدة بمثل هذه الظروف، التي تحتم إزالة عدم الثقة بين دول الاتفاقية وشعوبها. 
إن ما يلزم دول الاتفاقية اليوم، هو الاتفاقية “الأُمنية” التي نتمناها جميعاً، ونفوض أمرها إليكم جميعاً، اتفاقية منظومة دفاعية فاعلة، ضد ما يتهددنا من خطر دول الخارج “الصديقة”، الذي هو الخطر على الحقيقة لا تَوَهُم خطر شعوب الخليج.
بقلم.. حمدالسنان