كتاب سبر

“لو هو ذبيحة ما عشتك”

“لو هو ذبيحة ما عشتك”  

جاسم السعدون  
نظرة على تاريخ عالمنا المعاصر، نلحظ دولا تعاظمت وأخرى تلاشت، العلامة الفارقة بين الصنفين، الجيد والرديء، ان الدول التي تعاظمت آمنت وعززت مسيرتها باحترام شديد لمنظومة من القيم الايجابية واحترام شديد لسيادة القانون، بينما الدول التي تلاشت نهجت نهجا معاكسا تماما، ودون قيم وقانون تذوب الدول. لن أخوض في تجربة الاتحاد السوفياتي او الاتحاد اليوغسلافي او دول اوربا الشرقية او دول الربيع العربي واخواتها، وجميعها ذابت او تنتظر دورها، وانما ساعرض لامثلة من تلك الدول التي تعاظمت نتيجة احترام قيمها الايجابية وقوانينها، ومقارنتها بما يحدث في الكويت. 
في بريطانيا العظمى لم يرتكب وزير الدفاع البريطاني الاسبق أية مخالفة للقانون، وإنما يتحمل المسؤولية الادبية لاختيار اصدقاء لا يرتقون الى منظومة القيم التي يتبناها مجلس الوزراء البريطاني. فقد وضع امام خيار الاستقالة او الاقالة، لان صديق له دون علمه قدم نفسه على انه مستشار له من اجل الحصول على صفقة، واختار الاستقالة والانزواء بعيدا عن الحياة العامة. مثله تمام وزير الدفاع الالماني الاسبق وكان البديل المحتمل للمستشارة “ميركل”، فحال تسميته وزيرا، كشف الاعلام بأنه عندما كان طالبا للدكتوراة، اقتبس في رسالته للدكتوراة من اخرين دون الاشارة لهم، اي سرق جهد اخرين واختار الاستقالة والانزواء. 
رئيس الجمهورية الفرنسية الاسبق “جاك شيراك” 1995 إلى 2007 اتهم بأنه خلق 21 وظيفة وهمية عندما كان عمدة باريس 1983-1995 وصرف عليها من أموال عامة، حكم عليه بالسجن سنتين مع وقف التنفيذ رغم العجر في اثبات علمه بالأمر، ولم يشفع له تقدم عمره حينها 79 سنة وبدء مؤشرات الخرف عليه، كما تم مؤخرا احالة الرئيس الأسبق “ساركوزي” الى المحكمة بتهمة محاولة رشوة قضاة. “ايهود اولمرت” رئيس الوزراء الاسرائيلي 2006-2009 حكم بالسجن 6 سنوات لانه حصل على رشوة من جهتين بما مجموعه نحو 205 الف دولار امريكي او نحو 60 الف دينار كويتي. رئيس الوزراء الايطالي الاسبق “بيرلسكوني” حكم بالقيام بتنظيف بيوت المسنين شاملا حماماتهم كبديل للسجن نظرا لكبر سنه 77 عاما بسبب ثبوت تهمة تهربه من دفع الضرائب. “هوينس” رئيس نادي بايرن ميونيخ صاحب افضل مشروع رياضي في العالم عندما نجح في انتزاع زعامة كرة القدم مع الاحتفاظ بسلامة الوضع المالي للنادي، حكم مؤخرا بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة بسبب عدم الافصاح عن حساب سري له في بنوك سويسرا ترتب عليه تهرب من دفع ضرائب مستحقة للدولة. 
بين احترام منظومة القيم الايجابية في مثالي وزيري الدفاع البريطاني والالماني، وصلابة القوانين في ملاحقة رؤساء جمهورية وزراء واندية، قدمت تلك الدول القدوة في مؤسساتها الحاكمة. فالاصل هو ان على من يتبوأ منصبا عاما أن يكون قدوة حسنة، فان لم يفعل، فلا بد من عقابه حتى يكون قدوة لمن لا يتعظ. 
في الكويت، تم الكشف واثبات انتفاخ حسابات 26 % من اعضاء مجلس الامة بنحو 43 مليون دينار كويتي، تلك تهمة رشوة فاحشة، وتهمة خيانة وطن لانها مقابل شراء موقف، وتهمة وجود راشي اعلى نفوذا، وهي اخطر واكبر من كل التهم في الامثلة السابقة. ورغم ذلك، حفظت النيابة العامة القضية لقصور في التشريع. ولم يكن فقط حفظ بمثابة التبرئة، وإنما اعادة قيد بعضهم مرشحين من قبل قاض واحد بعد ان استبعدتهم لجنة الانتخابات المكونة من 9 قضاة مستشارين بدعوى عدم الاهلية، وبات بعضهم مشرعا ومراقبا وحتى عضوا في لجنة حماية الاموال العامة بالمجلس. في الكويت، تبين حدوث تحويلات بالملايين في قنوات وزارة الخارجية الكويتية لاطراف مجهولة، ودون علم وزيرها وكان نائبا لرئيس مجلس الوزراء مما ادى الى استقالته، وعمك وخالك وكل الاقرباء حتى الدرجة الرابعة صمخان. في الكويت، كانت البداية اكبر اوكار الفساد حيث ناءت البعارين عن حمل فسادها، اليوم البلدية فاسدة، ولكنها تشكو فقدانها لللصدارة، فرغم زيادة حجم الفساد فيها، الا ان نجوما كثيرة من مؤسسات الدولة الاخرى تفوقت فسادا عليها. وقبل كل ذلك وبعده، هناك الاستثمارات والناقلات والديزل ومشروعات مضروبة تحت الارض، مثل محطة مشرف، وفوقها، مثل الطرق القاذفة للحصى، ولا يتثنى رداءة الخدمات رغم انتفاخ الانفاق عليها وكثرة مكافآت العاملين فيها. 
هذا الوطن الصغير والجميل، والذي كان قدوة في يوم غير بعيد، اصبح يقدم للفاسدين والعاجزين على أنه “لو هو ذبيحة ما عشتك”، لا يتعظ فيه مسئولينا من أمثلة التاريخ البعيد والقريب، رغم زحف امثلة الجغرافيا الى الحدود. ولا امل في انقاذه دون استعادة مؤسساته لهيبتها، ليس بالعصى الغليظة والغبية، وانما بمسئولين قدوة في احترامهم القيم، واستخدامهم قدوة بتطبيق حازم للقانون على من يرتكب الخطايا منهم. ماعدا ذلك، سيكون منتهى طموحنا انتظار 2014/12/31 لعل وعداً بنظافة حمامات مطار الكويت الدولي يصدق، ربما بعد الاستعانة بخبرة “بيرلسكوني”، وسيكون انجازا عظيما للادارة الحالية، أما الوطن، فالله يرحم حاله وحالنا، ليس سوى ذبيحة.