فن وثقافة

كارسينوما

كارسينوما    
( قصة قصيرة لـ حسن المسعودي)    
أجساد هزيلة.. عاجزة عن دحر عدو يتمدد فيها، عربات داخلة وأخرى خارجة تحتضن تلك الأجساد يدفعها الأقارب أو الخدم ، صعوداً إلى الطابق الأول من مبنى الشيخة بدرية الأحمد.. أو ناحية مبنى فيصل سلطان بن عيسى، والمبنيان ملحقان بمستشفى حسين مكي جمعة، ميدان  الدفاع الأول في الحرب على السرطان، جرعات العلاج الكيماوي هناك، وهنا العلاج الإشعاعي، وفي المبنى الرئيسي يتوالى فتح الملفات لقادمين جدد تمكن منهم ذلك الخبيث، تمر السيارات تباعاً، تصطف خلف بعضها أمام البوابة الرئيسية، بعضهم  ينزل بصحبة المرافق وبعضهم تتلقفهم أيادي الفراشين… تُنزل السيارة مريضها ثم تخلي المكان للسيارة التي خلفها.. جموع آتية وجموع تترقب.. وأخرى غيبتها الألحاد، والداء ينتشر، منذ  أكثر من عشرين عاماً وهو يتوسع كبقعة زيت إلى الحد الذي دفع البعض إلى الخوف المضاعف.. والاعتقاد بأنه قريباً سيطرق كل الأبواب لينبت سكاكينه في ما تبقى من اللحوم الطرية. 
عند مدخل المستشفى زينت فاترينة الكافتيريا بأنواع الحلوى وقطع الكرواسان والكاكاو.. قريباً منها ثلاجة مُلِئت بأنواع العصائر والمشروبات الغازية، الكافتيريا بمساحته الصغيرة لم يقلل من كآبة المكان، في وسطه يقف عامل مصري متأنقاً يقدم الطلبات لأصحابها مصحوبة بابتسامة مصطنعة. 
والمستشفى الرئيسي بكل ممراته يموج بحركة لا تهدأ، مقاعد الانتظار أمام نافذة صرف الأدوية   لا تخلو من المرضى، الشاشة الالكترونية  أعلى باب المختبر تنير برقم جديد كل لحظة، الموظفة في غرفة التقارير الطبية تنادي بأسماء الجالسين على بعد أمتار منها، وزميلتها خلف زجاج الاستقبال في قسم الأشعة التشخيصية تجاهد لإقناع المراجعين بعدم توفر مواعيد قريبة.. أحدهم يصرخ: سيهلكني المرض.. عندما يحين الموعد سأكون مستلقياً في القبر! 
الممدون على الأسرة البيضاء.. المراجعون، الآتون والمغادرون كل منهم يحمل في جوفه نوعاً ما من ذلك الورم ، الأورام تتباين خطورتها حسب المكان الذي تسربت إليه، حالما تحتل عضواً من الأعضاء تبدأ بالانتشار الفوري في محيطه، ثم تنشب حرب مدمرة.. طويلة المدى أحياناً، قد  تنتهي بهدنة بين طرفي الصراع، لكنها غالباً تفضي إلى الموت.
 البنكرياس.. المثانة.. الثدي، أكثر الأماكن استهدافاً، وإحصائيات منظمة الصحة العالمية تؤكد أن الضحايا في ازياد..  الكويت يرتفع فيها مؤشر المرض على نحو مخيف، وزارة الصحة تتعهد بإنشاء أكبر مركز لعلاج السرطان في الشرق الأوسط، لكن ذلك لا يعدو كونه وعوداً هوائية لإسكات أعضاء مجلس الأمة، ليس هناك من يثق بما تقوله الحكومة، إذ قالت وتحدثت ولم ير الناس إلا المانشيتات في الصحف.. الثقة تلاشت والداء ينتشر والناس في قلق!.
***
يتزاحم المراجعون على عيادة الدكتور مصطفى، استشاري العلاج الإشعاعي..
 الوجوه البائسة تترقب  لحظة الدخول على الطبيب رجاء أن تسمع ما يحرك فيها مياه الأمل، لحظات انتظار كئيبة تمر قبل أن تنادي الممرضة على الاسم التالي، غالبية المراجعين من الجنسيات الأجنبية، أما المواطنون فتتكفل الدولة بترحيلهم إلى الخارج، السياحة العلاجية تستقطع قدراً كبيراً من الموازنة العامة، حتى أن البعض يجدها مبعثاً للسعادة أن يكون قريبه مصاباً بـ “الكارسينوما” ، إنها فرصة لا تعوض لسفر مجاني طويل في أنحاء أوربا أو التجول في شوارع نيويورك.
***
“غلام رضا.. غلام رضا”.. 
كررت الممرضة الاسم، دخل غلام متأبطاً ظرف الأشعة، وملفاً معبأ بالأوراق.. بعد أقل من ساعة غادر العيادة تعلوه غيمة من الحزن،  ثم لم يعد، كان ذلك اليوم الأخير، بعدها حزم أمتعته وعاد إلى باكستان تاركاً خلفه ثلاث سنوات هي الفترة التي قضاها في الكويت، لم يكمل مشروعه في تأمين مستقبل أولاده، جسر الأحلام الذي شيده حين كان عاملا في شركة المقاولات تداعى بمجرد اكتشاف الورم وبات عاجزاً عن ترميمه.. فأقفل راجعاً إلى وطنه.
أما الدكتور مصطفى فقد تراكمت لديه الخبرة الكافية في كيفية التعامل مع مرضاه، يملك براعة نادرة في طريقة مكاشفة المريض، يبدأ بعبارات الاستلطاف في الحالات الجديدة، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية عند الحالات المستعصية، ينظر إليه البعض على أنه المخلّص،  ربما لأنه يتظاهر دائماً ببساطة الحالة مراعاة للجانب النفسي للمريض وحتى يساعده ذلك على الاستجابة الجيدة للعلاج.. أكثر من ذلك هو لا يتردد في إعطاء رقم هاتفه الخاص لمن يطلبه، ولا يجد مانعاً في الرد على استفسارات المرضى متى شاؤوا.
وحدها “أمل” وقفت عاجزة عن أن تتقدم خطوة في موضوع سفرها للعلاج، الجهات الأمنية تصر على أنها تخفي جنسيتها الأصلية، لذلك رفضت أن تصرف لها جواز سفر بينما استنفد والدها كل طاقته  لإزاحة القيد الأمني دون فائدة.
الحال يزداد سوءاً بينما هي تنتظر أن ترأف بها الدولة.. أيقنت أخيراً ألا جدوى من الاستمرار في المحاولة، فاستلسمت للمرض وأسلمت له القياد.
“الورم يتضخم في داخلي.. لكنه يبدو أكثر تضخماً من حولي”.. هكذا تقول.
أصابها ضعف شديد بعد جرعات العلاج المكثف.. تساقط شعر رأسها وحاجبيها، وتحولت إلى هيكل هزيل: عينان غائرتان، وجه يكسوه لون داكن..  
بعد أيام كتبت عبارة أطلقتها عبر هاتفها النقال إلى أصدقائها المقيدين في قائمة الأسماء:
كارسينوما.. ألطُف بنا وترفق.. 
متى تترفق؟!”