كتاب سبر

بقلم.. جاسم السعدون
هيبة وهبل وهم آخر

عندما يحدث أمر جلل، علينا البحث في جذوره وليس نقاش وعلاج ظواهره، وما يحدث في الوطن العربي تجذر على مدى نصف قرن، وأفرز ما نراه اليوم من فوضى مدمرة، آخر مشاهدها المؤلمة هو إعلان دولة داعش. ما يحدث الآن في الوطن العربي، هو إفراز لحكم “بالهيبة الزائفة”، أو “بالهبل المفرط”، أو خليط من هذا وذاك، ثم “هم” قيام طباخ غير ماهرباستثمار تلك الهيبة وذلك الهبل، بالإسراف بصناعة وتسويق وجبات سريعة غير صحية، أصابت الإقليم بكل أمراضها.
في الهيبة الزائفة، كان أبرز الأمثلة ذلك الحكم المباشر للمهيب الركن القائد الضرورة “صدام حسين” الذي اختزل في شخصه وعلى مدى نحو ربع قرن من الزمن، دولة العراق ذات الحضارة العميقة. أبعد كل من ينافسه بالقتل منذ شريط الفيديو في عام 1979، ولم ينتهي القتل بإزاحة ابن خاله “عدنان خير الله” وصهره “حسين كامل”، بالإضافة إلى حربين مدمرتين خارج الحدود، أو غزو إيران وغزو الكويت، واستخدام أسلحة الدمار الشامل في “حلبجة”. هيبته الزائفة أعادت العراق قرن من الزمن إلى الوراء في بناه التحتية لو حسبت الفرصة البديلة لاستثمار موارده، ودمر بناه التحتية السياسية والاجتماعية. هيبة لا تسمح بمشاركة سوى المسخ من البشر حوله، بينما امتلأت البلد بالأرامل والمعاقين، ورغم وفرة الموارد، بات من المحظوظين من حصل على فرصة للهجرة، فهو على الأقل ضمن حياته وبعض كرامته. إذا قال المهيب الركن بأن ليس في العراق مستحيل، وأن الفيل يطير، فما عليك سوى تأكيد واقعة الطيران، وذلك ما فعله قائدا الفيلق الثاني المسخ عندما أكد بأن “الفيل يطير” كما قال القائد الضرورة، ولكن “ما يعلي هواية”، أي لا يحلق عالياً. وعندما ظهرت كلمة “النهاية” على شريط فيلم الرعب، لم تصمد تلك الهيبة، وخرج من حفرة أعدها مخبأ له لأحوال الضرورة، وسمح لجنود الشيطان الأكبر بإجراء عمليات مهينة للفحص والتنظيف والتطهير.
ومثال الهبل المفرط قدمه “القذافي”، صاغ أو صيغ له كتاب أسماه بالكتاب الأخضر، والكتاب الأخضر لمن لم يقرأه ينظم مسار حياة الدولة، من أجرة المنزل لأي فرد فيها، وحتى تفاصيل إدارتها لتصبح الدولة العظمى الرائدة في العالم. لقد كان مجنوناً رسمياً وليس مجازاً، وقبض على سدة الحكم لأربعين سنة، خلالها شهدت ليبيا أكبر السجون والمقابر الجماعية، وأدار البلد بمركزية مفرطة، وحولها إلى عزبة عائلية، ورغم ذلك، ادعى علناً بأنه بلا منصب وبلا سلطة حتى يستقيل منها. أصبح هادياً زاهداً وأميراً للمؤمنين لا يسكن سوى بخيمة، حتى لو كانت في وسط ساحة في روما أو نيويورك، وكل شيء بثمنه، ثم أصبح ملك ملوك أفريقيا وموحدها. دعا إيطاليات من أعمار صغيرة وأطوال محددة للهداية للإسلام، وأسند حرسه الشخصي لنساء ليبيات، وعين ابنته جنرالاً، وأبناءه الآخرين في كل مفاصل الدولة العسكرية والأمنية والمالية، وظل من دون منصب يستقيل منه. خاض حروباً امتدت من إيرلندا الشمالية، مروراً بأفريقيا، ولم تنتهي في بعض الدول العربية، وخطف الإمام “موسى الصدر” وقتله، واتهم بإسقاط طائرة مدنية فوق لوكيربي، ودفع ملياري دولار أمريكي تعويضاً للضحايا، وصنع ثم دمر أسلحته للدمار الشامل، وظل قائد الثورة الملهم، ولكن من دون منصب. وتخلفت ليبيا “عمر المختار” أسوة ببلاد الرافدين قرناً من الزمن في بناها التحتية والسياسية والاجتماعية، وحصد البلدان لعنة النفط خالصة وأهدرا نعمته. وعندما حلت كلمة “النهاية” لفيلمه الهزلي، تم اصطياده مثل صاحب الهيبة في حفرة، ورغم جرائمة، لابد من إدانة التعامل معه بقسوة غير حضارية، ولكنها للأسف حصاد زرعه.
وكأن الهيبة والهبل لا يكفيان هذا الإقليم المنكوب، فالشيف الأمريكي وفريقه الغربي عرفا جيداً مكونات الخلطة العربية، فما بين المثالين الصارخين لـ “صدام” و”القذافي”، يقع معظم الحكام العرب، بعض الهيبة الزائفة أو بعض الهبل غير المفرط، ولكن، صلبها هو أن الحاكم مصدر كل السلطات، أي الحاكم هو الدولة. والوسيلة هي المساومة على دعم بقاء الحاكم، والثمن هو الدولة، فلا بأس من الحروب ولا بأس من هدر الموارد مادام ذلك يضمن استمرار الحاكم الدولة. وأصبحت المنطقة العربية حقل تجارب، فعندما كان الأولوية هي حماية منابع النفط، لا بأس من دعم وتعزيز الفكر الديني المتطرف في دول النفط وتمويله بغزارة. وعندما حان قطف ثماره، لا بأس من توظيف “عبدالله عزام” و”بن لادن” وصحبهما للجهاد أمام المد الشيوعي الكافر الفاجر في أفغانستان، حتى ملك المجاهدون هناك صواريخ “ستنغر” التي لا يملكها بعد صانعها سوى إسرائيل. وعندما سقط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، اعتقد الغرب بأن المهمة قد أنجزت، وأداروا ظهرهم لـ “فرانكشتاين”، ولكن المارد ارتد بالدرجة الأولى على حقل تجاربه، أي علينا، ثم ارتد عليهم. باختصار، لا خلاف على تبني إدارة الرئيس “ريغان” للمجاهدين الذين شبههم بجيل آباء الاستقلال الأمريكي، ولا خلاف على خلق جماعة “طالبان” بتعاون وثيق بين جهاز المخابرات الباكستانية والولايات المتحدة الأمريكية. والشباب في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا وداعش العراق والشام، نسخ مصغرة أو مكبرة من نموذج “طالبان”.
الآن، بات الوضع في غاية الخطورة، فالمرض الذي طال المنطقة العربية ليس من أمراض العصر، لذلك لا يعرف له العالم مصل وقاية أو دواء علاج، والمؤكد أن لا علاج قصير الأجل لمرض تجذر على مدى نصف قرن من الزمن. شواهد هذا المرض تبدو على شكل تنظيمات أو مشروعات دول، يعتقد القائمون عليها بقدرتهم في العودة بالتاريخ 1400 سنة إلى الوراء، ووسيلتهم في تلك العودة هي خليط عجيب من هيبة مفرطة في الترويع، وهبل متطرف. ضباط أو قادة هذه التنظيمات أو مشروع الخلافة، ينعمون بكل مباهج الحياة الدنيا أسوة بمثالينا، بينما تكمن الخطورة في سذاجة ذلك الحشد من الجنود، فهم أولاً قنابل موقوتة منتشرة في كل بقاع الدنيا، وهم ثانياً وهو الأخطر، يعتقدون جداً بحيازتهم على صك غفران يأخذهم حالاً إلى الجنة لو ماتوا، لذا ليس هناك ما يخيفهم أو يردعهم، فأهم اختراعات قادتهم، هي كبسة زر لتفجير حزام ناسف.
أفضل تصنيف ائتماني سيادي تحصل عليه دولة هو تربل ايه أو AAA–، وأسوأ تصنيف سياسي تحصل عليه دولة هو تربل هـ، أو -هـ هـ هـ- أي هيبة وهبل وهم آخر، والتاريخ يؤكد أن معظم دولنا استحقت بجدارة التصنيف الأخير، لذلك لن تكون جهود التخلص من هذا المرض سهلة. 
في لقاء مع هيئة الإذاعة البريطانية، يقول رئيس سابق لهيئة أركان قواتها بأن المواجهة مع داعش لا خيار فيها سوى الفوز في مباراتين مع الخصم مباراة للذهاب وأخرى للإياب، كما في لعبة كرة القدم. ويقصد بأن حشداً وتحالفاً حقيقياً لابد وأن ينتصر في المعركة على أرض داعش أو مباراة الذهاب، ولكن ذلك لا يكفي، فلابد من الفوز في معركة وقف التفريخ من الداخل، ويقصد الداخل البريطاني والعربي بشكل عام، أي مباراة الإياب. وتقديري أن استخدامه لمصطلح ضرورة الفوز في مباراتي الذهاب والإياب صحيح، ولكن، المفارقة هي أن مباراة الإياب في دول الحضانة هي الأصعب خلافاً لما هو سائد في عالم كرة القدم، وهي التحدي الحقيقي.
لا شك أن الغرب قطف ثمار صناعته لـ “فرانكشتاين” واستفاد على المدى القصير إلى المتوسط، ولكنه دفع ويدفع ثمناً باهظاً لخطاياه على المدى الطويل، ولن تكون مهمته سهلة للفوز بالمبارتين. ذلك يعني أن الغرب سوف يقود تحالف إقليمي يجمع الأضداد في مباراة الذهاب، وذلك سوف يؤدي إلى تحجيم داعش وربما هزيمتها، ولكن حتى النصر في مباراة الذهاب لن يمنع تفريخ أو استنساخ داعش في المستقبل كما حدث بعد أفغانستان في عام 2001 أو العراق في عام 2003. والغرب سوف يعمل بخطة مدروسة وبجهد مؤسسي تساهم فيه كل مفاصل الدولة، وبعد جهد ووقت وتكلفة، احتمالات فوزه كبيرة أيضاً في مباراة الإياب على أرضه.
ويبقى التحدى الحقيقي هو مباراة الإياب في معظم دولنا، فالفوز لا يتحقق إلا للدول التي تحشد كل قدراتها الشعبية والمؤسسية في المواجهة، مواجهة سياسية اقتصادية اجتماعية ثم أمنية، ومعظم دولنا تدعي مجازاً دول، بينما هي مختزلة في شخوص حكامها. وكما أن نموذج دولة الخلافة خارج نظام العصر، كذلك نموذج الدولة الشخص نموذج عفى عليه الزمن، ولا يمكن له أن ينتصر. فالمباراة تحتاج إلى تجنيد أفضل اللاعبين وحشد كل الجمهور للفوز فيها، ولن يحدث ذلك ما لم يوظف كل لاعب وفق قدرته بعيداً عن عرقه أو دينه أو مذهبه، وما لم يكن مواطن له كل الحقوق وعليه كل الواجبات وفقاً للقانون، وما لم يكن هو مصدر السلطات، حتى يدعم الفريق كل الجمهور، وذلك ما لا تسمح به خاصيتي الهيبة أو الهبل في دولة الشخص الواحد.
بقلم.. جاسم خالد السعدون