كتاب سبر

ليالي مسلم البراك

على ضوء نار تلظى، يجلس رجال في آواخر الأربعينات من العمر، وحولهم أطفالهم الصغار، يسترقون السمع لما يقوله آبائهم وهم يتسامرون، ويتجاذبون أطراف الحديث، فمن قصة ناقصة التفاصيل عن تاريخ الحروب في جزيرة العرب، إلى تعدد روايات على ألسنتهم عن أحد أبطال الصحراء في السابق، إلا أنهم  لا ينفكون يخطؤن في أحداث هذه الروايات عن البطل الأسطوري، وتضيع منهم المفردات في سرد قصائد الشعر التي قيلت فيه أو عنه، ولا يلومهم أحد، فالأبطال الاسطوريين ماتوا منذ أزمان بعيدة، وتراجع ذكرهم، وخفتت الأحاديث عن مآثرهم.
يتحوّل الحديث فجأة، إلى بطل اسطوري من هذا الزمان، وتتدافع الألسن في ترديد مقولاته، وتزداد النار اشتعالاً رغبة من المتسامرين في رؤية وجه كل رجل وهو يتحدث عنه، يحاول أحدهم تقليد إيماءاته، وينجح آخر في محاكاة التلويح بيديه في إحدى خطبة العصماء، ويستذكر الجميع مقولاته الخالدة، وتسمعهم بصوت واحد وهم يحاولون إتقان نبرة صوته الجهوري الفخم ويرددون “باسم الشعب وباسم الأمة”، تلك المقولة التي يرددها دوماً إيماناً منه بهذه الأمة.
يستمع الأطفال إلى آبائهم وهم يتداولون القصص عن هذا البطل، ويذكر كل منهم موقف شخصي له مع هذه الاسطورة، أحدهم شاهده في ليلة شتاء ممطرة باردة وهو يزعزع أركان الفساد في إحدى خطبه الشهيرة في ساحة عامة، وآخر يتذكر أنه حضر استجواباً خيالياً لم يتمكن بعده أحد الوزراء من العودة للمنصة بعد أن استل البطل سيف الحق بمعلومات دامغة لا تقبل التشكيك، بينما استذكر آخر دمعة هذا البطل الذي سقطت من أجل إنسان عُذِّب وقتل بطريقة بشعة، وأقسم حينها أن يقتص له لو كان وحده.
من النادر أن يتحدث الناس في مآثر بطل وهو لا يزال على قيد الحياة، ولكن البطولة التي لم تعد موجودة في هذه الأزمان المتخمة بالجبناء وتجار الفساد وشذاذ الآفاق، تدفع الناس للبحث عن هذا البطل، وتبني حوله الأساطير والمعجزات رغم عدم الحاجة لها، وتنشأ طبقة كاملة على كراهيته، لأنه كان السبب في كشف حقارة معدن أحد أقرباءهم أو رموزهم، غير أن البطولة تستدعي مثل هذه الكراهية، فما هو البطل لولا الفاسد الجبان الرعديد المقابل له؟
لحظات لا تجدها دوماً في حياتك أن تعايش شخصية بطولية، وترى بأم عينك كيف يكافح ويناضل من أجل شعب وأمة، وتشاهد كيف تحاك المؤامرات وتوضح حبال الأفخاخ له، فيتجاوزها بإيمانه المطلق بقومه وشعبه، بل أن أحداثاً كثيرة واكبت وجود هذا البطل، منها أن الناس تنشقت للمرة الأولى روائح القنابل الدخانية والغازية، وشاهدت أشياء لم تكن تتوقع في يوم ما أن تراها، ولم تتقبل العقول حتى الآن ما يمكن أن يأتي من ضرب وملاحقات واعتقال وأشياء أخرى صادمة للعقل والوجدان.
لو لم يكن لهذا البطل غير حسنة إيقاظ الناس من غيبوبة الكذب والخداع بوجود ديمقارطية حقيقية لكانت كافية له كبصمة ستبقى للتاريخ، لكنه تجاوز ذلك، ليكون جزءاً من ضمير الأمة، هل احتاج لذكر اسمه لكم؟ لا أعتقد ذلك، فليس لهذا الزمان أبطال كثر تجمع كل ما سبق.
بقلم.. محمد مساعد الدوسري