كتاب سبر

ماذا بعد انتهاء مهلة محادثات صياغة الاتفاق النووي؟

انتهت مهلة كتابة الاتفاق التفصيلي في شأن الملف النووي الإيراني ضمن مفاوضات 5+1 الجارية في جنيف وفيينا منذ سنوات، وواضح أن هناك إخفاقا متبادلا، وقد مدد الوفدان المفاوضان وهما بتحديد أكثر إيران والولايات المتحدة الوقت لمدة أسبوع آخر، لكن من الواضح أن الاتفاق صعب ويتطلب معجزة. والتمديد لأسبوع غايته إبقاء الأهمية، لكن واضح أن معايير كثيرة تبدلت بعد حرب اليمن والوضع بسورية والعراق، ومن الواضح أن الطرفين (واشنطن وطهران) يريدان انتزاع شروط جديدة قبل إتمام الصفقة، ومن الواضح أيضا أن هناك خيبة أمل إيرانية وتغيّرا في الموقف الأميركي. ويعتبر إعلان لوزان الأحدث وحدد الخطوط العريضة للاتفاق خصوصا في مجال التخصيب وكان بمثابة ترضية للإيرانيين في مسألة العقوبات ولكنه لم يخرج عن معايير (إعلان المبادئ) الشامل والتفصيلي الذي تم مطلع العام الماضي 2014.. وتجد بنوده مفصلة في هذا الرابط
 ولكي أنشط ذاكرة القارئ الكريم فالاتفاق هو أصلا تم خلال مفاوضات أميركية إيرانية في مسقط وأحدث الإعلان عنه في حينه قلقا عربيا واسعا، ونتذكر أيامها أن الرئيس أوباما حضر إلى الرياض والتقى الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز في محاولة لطمأنة الحليف السعودي على ثبات علاقات البلدين.
 لكن منظور إيران مختلف بالطبع.. وهو غير مستغرب على دول الحكم الفردي أو الشمولي، التي تجنح  للغرق بالأوهام وأحلام السيطرة والنصر.. وإيران اعتقدت أن الغرب سيفوضها أمر المنطقة لتفعل بها ما تشاء في مقابل (تلطفها) بالتنازل عن مشروع قنبلتها التي تخاف من آثارها إسرائيل.. وهذه تعرف أن إيران دولة مذهبية بنص الدستور، ولذلك هي في صراع مع الجوار عموما، وبالتالي فإن امتلاكها للقنبلة سيؤدي إلى سباق تسلح نووي خطير سيربك تفوقها وانفرادها في هذا المجال.  
لكن مسار التاريخ تغير.. ومسارات التاريخ تتعرض لمؤثرات شتى، وشخصيا أوقن بأن الله وحده المدبر فليست هذه مفاضلة لا سمح الله بين ملكين هما أخوين، ولهما تقدير كبير في بلدهما ودوليا.  
وعن نفسي لا أجد فرقا بينهما باستثناء بعض التفاصيل ومنها إفساح دور للشباب الصغير بتسلسل القيادة، فإذا كان الملك سلمان حازما بسبب قراره بشأن اليمن، فسلفه الملك الراحل اتخذ قرارا مماثلا في شأن البحرين وأنقذها من ضياع لا يعلم نتائجه غير الله، لكن الذي يبدو عليه الموقف السعودي الآن من حزم وصلابة سببه أيضا أيران نفسها فإذا كان تم الصبر على سياساتها أو جرى تحملها في العراق أو في سورية، فإن لكل زمن ظروفه، كما أن هناك مواقف سعودية وعربية معارضة لإيران في كلا البلدين (العراق وسورية) وهي معلنة ومعروفة وعلى الأرض وبعضها دموي..! لكن أحدا لم يتخيل أن تبلغ عنجهية طهران حد مد يدها إلى اليمن بما يعنيه ذلك من اختلال استراتيجي لا يمكن تحمله والتعايش معه إطلاقا وبأي شكل، وهنا يقدر كثيرون بأن إيران فهمت أن العالم العربي وصل إلى درجة (تبلد تام) لسببين أساسيين: أولا خشية تداعيات الربيع العربي وثانيا من باب التسليم لها بالهيمنة إقرارا لرغبة الحليف الأميركي، وكذلك انطلاقا من خشية ردات فعلها بزرع ما اعتادت عليه من فتن، ما أوجد تصورا خاطئا لدى القيادة الإيرانية، فالدول العربية (الخليج تحديدا) تجاوزت (فوبيا) الربيع العربي وامتلكت زمام المبادرة، وهي (صانع ألعاب) في هذا الشأن ولم تعد تقف في مهب ريح مزاج البيت الأبيض بالعصف بمن يشاء والتفاهم مع (الإخوان) كخيار أمر واقع، والدول العربية وخصوصا الخليجية لا تعاني ما يعانيه غيرها من أزمات.
 أما الاتفاق الأميركي الإيراني فمؤكد أنه لا يلغي أهداف كل جانب، والأميركي بالمحصلة يريد إعادة تدوير التركيبة الإيرانية لتحقق مصالحه، ويشمل هذا تغيير بنيتها العامة (كنظام) بما يؤدي إلى دمجها بعملية السلام في الشرق الأوسط ومكافحة الإرهاب والسوق الدولية ووقف عدائها النظري للغرب.  
لكن المعطى العام لم يقدم إيران في الصورة الجديدة التي يريد الغرب دفعها إليها، فطهران تواصل التحالف مع نظام مجرم في سورية لا يتقبل أحد بل لا يمكن إعادة تأهيله، ونظام فاشل في العراق تسبب بوجود خطر عالمي (داعش)، وهي لم تبادر بأي جهد يعزز ثقة الغرب بها كـ (وكيل) محترم لبعض الأعمال، وحزبها اللبناني يعطل وجود الرئيس المسيحي الوحيد بالمنطقة، وهذا مهم ولو شكليا.. مع أن حزب إيران في لبنان يتحالف مع مسيحي متطرف (الجنرال عون) والذي كان يوما صنيعة عدوها اللدود وعدو حبيبها نظام الأسد.. صدام حسين.. لكن الغرب يريد بالنهاية رئيسا مسيحيا قرب الديار المقدسة حيث إسرائيل..! وإيران تعاني من اضطرابات عرقية ودينية في العديد من مناطقها، ومعارضتها العلمانية والقومية تطلق أقوى التحركات في قلب أوروبا وتقدم حلا جذريا لمسائل “الملف النووي” والإرهاب والتطرف والاندماج مع الجوار والمجتمع الدولي، في مقابل نظام متخلف يتحدث لغة قديمة لا يمكن استيعابها وقبولها لينفتح ذلك على مشهد مختلف من الطرف المقابل (العربي) والذي يراد له أن يسكت على التفويض الغربي لإيران.  
لقد شهد العالم المزيد من الأدلة على انهيار عراق إيران على يد (داعش).. وكذلك تقدم الثوار في سورية ضد النظام يدعمهم عمل مشترك تتولاه ثلاث دول تجاوزت خلافات سابقة في شأن سورية هي تركية والسعودية وقطر. كما برزت الحاجة للدور السعودي في دفع معدل النمو العالمي مع هبوط سعر النفط وظهرت الرياض كعامل استقرار لا غنى عنه، ما فرض على الأميركي مراجعة حساباته والأغلب اعتمادا عى مساهمات سعودية بإخضاع إيران، فالسعودية تطردها من اليمن وسورية والعراق، فإذا أخرج التطرف الإيراني من الدول الثلاث فسينتهي دون شك التطرف المقابل متمثلا بداعش. لقد أدرك الغرب أنه يتعامل مع نظام تشبه أدواته السياسية أدوات قطاع الطرق لفرض خياراته، ومع اعتراضات إسرائيل على الاتفاق أضحى الأمر مهنيا بحتا وغادر إطاره الاستراتيجي بالتخلي عن تهديد في مقابل تفويض بأمر المنطقة، وصار الحديث مركزا على التخصيب والتفتيش والحظر الاقتصادي، وليس كما اعتقد الإيرانيون: خذوا النووي ودعونا نفعل ما نشاء هنا وهناك..! لقد اختلفت المعطيات ومن يربط الاتفاق النووي بإطلاق يد إيران لا يرى الحقائق على الأرض، والمقارنة بين الشاه الامبراطوري والنظام الديني الحالي غير مناسبة.  
أما يوم أُعطي الشاه محمد رضا بهلوي مهمة (شرطي الخليج) فكان الأمر مختلفا كليا، بل كان حكام الخليج جميعا في ضيافته باحتفالات عرش الطاووس!.. كان الشاه يقيم احتفالات بمرور 2500 سنة على عرش الملوك الفرس الكسرويين ممن دعا عليهم النبي بأن الله سيمزق ملكهم للأبد.. وفي هذا الوقت (1971) كان سيتم الانسحاب البريطاني من الخليج وكان الطبيعي أن من يرث الانجليز في العالم بمواجهة الشيوعية كانت الولايات المتحدة، وأعطي التفويض للشاه في ظرف صدام بين الكونغرس والرئيس ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر (لاحقا وزير الخارجية) بسبب معاهدة سولت 1 للحد من الصواريخ الاستراتيجية والرقابة عليها، إذ اتهم الرئيس بالتفريط في وقت أعلن فيه الزعيم السوفياتي لينيد بريجنيف توجهات في شأن المحيط الهندي وكان للسوفيات يد في الحرب الهندية الباكستانية ومطامع معلنة بالوصول للمياه الدافئة في الخليج العربي.  
ويمكن القول بأن النظام العربي في ذلك الوقت لم يكن ليعارض الشاه فلم تكن المسألة المذهبية مثارة بل العكس فالشاه عدو للملالي في بلاده، بل كان هناك خطر مباشر على منابع النفط، فاليمن الجنوبي كان خاضعا لنظام ماركسي على وشك الدخول في حلف وارسو.. وفي ظفار عمان ثورة مماثلة!.. وكانت قوات الشاه لبت طلب السلطان قابوس للمساعدة في سحق التمرد.. وهكذا لم يكن للمنطقة حساسية من إيران الشاه كما حساسيتها مع إيران الملالي الآن.. وهكذا بعد شهر واحد من احتفالات الطاووس وتناول ضيوفه ما لذ وطاب من موائد (مكسيم) الباريسية احتل الشاه جزر الإمارات الثلاث وبتواطؤ غربي! لقد تغير الموقف تماما، فليس هناك خطر على تدفق النفط من الخليج، وبلدانه وعلى رأسها السعودية من أكبر شركاء الولايات المتحدة اقتصاديا، والمتوقع هو استمرار سياسة النبذ والاحتواء لطهران حتى تذعن بالكامل، أما الجانب الآخر من المعادلة وهو الدول العربية فإنها موجودة وبقوة وهي مؤهلة لقيادة المنطقة وضبط حركتها باعتبار أن إيران هي عنصر قلق واضطراب فهي الداء ولا يمكن أن تكون الداء.