أقلامهم

خلود الخميس: إحياء ذكرى الغزو العراقي «فتنة»

العنوان مثير للغرابة أليس كذلك؟
فمن منع الشعب الكويتي من إحياء ذكرى الغزو العراقي الغاشم على أمه الكويت؟
الإجابة: كثيرون فعلوا، بل يتهمون الكويتيين بأنهم بيادق فتنة وأسافين فرقة وسبب تشرذم الأمة العربية إذا أحيوا ذكرى الاحتلال العراقي على الكويت، تخيلوا؟
مادام الأمر كذلك، تعالوا أقص عليكم القليل من أسباب «بث الفتنة» السنوية التي نتهم بها:
كنا في شهر الصيف «أغسطس» وفيه يسافر الكويتيون للسياحة والوافدون لزيارة أسرهم في بلادهم خاصة المدرسين، فقرر حامي البوابة الشرقية تحرير القدس من دنس اليهود، ولكنه وجد الطريق طويلا فاختار أن يختصره عبر الكويت.
قطاع الطرق فقط يعرفون المختصر منها، ولكن بعد أن دخل المهووس بجنون العظمة وجيشه إلى مناطق الكويت السكنية وبث فيها الرعب وقتل المدنيين الذين كانوا يفتحون أبواب منازلهم لمشاهدة ماذا يحدث واعتلاء الأسطح لمراقبة المشهد بعد إعلان إذاعة الكويت رسميا «دخول العراق للكويت»، هب الكويتيون للدفاع عن أرضهم بأسلحة الصيد «الشوزن» المصرح قانونا باقتنائها، فقتلوا بدءا من الجهراء، وتمت إبادة من تواجد في معسكر الحرس الوطني، وكان شهداء الوطن في الشوارع تمشي على أشلائهم دبابات الغازي، وهذا مشهد أنا شاهدة عليه وليس فيلما هوليوودي الإخراج.
في «أغسطس» كان لنورة حلم بشهر عسل جميل بعد إتمام مراسم العرس، ولكن قطع الجيش العراقي الفستان وحرق صالة الأفراح وقتل أبا العروس وأسر «المعرس» وبكت نورة الجوري الأحمر الذي داسته «البساطير» فصار يمثل الموت بدلا من «الرومانس».
في «أغسطس» خرج من الكويت المقدم ركن أحمد يقود طائرته الحربية مخلفا ابنتيه هبة وهلا وأمهما وأمه وأخواته وأخاه وعزوته كلها إلى المملكة العربية السعودية تنفيذا لأوامر القيادة العسكرية، ولم يعد إلى سماء الكويت إلا مع أسراب الحرب الجوية تطرد الغزاة وتلاحقهم لتعيدهم خلف الحدود الشمالية للكويت، لقد ظهرت أول سن لهبة وقالت هلا بابا وأمه غزا ذاكرتها النسيان ولم يكن بقربهم.
في «أغسطس» كان عبدالله يجري عملية جراحية في قلبه لتبديل شريان مغلق، فما ان عرف أن العراقيين اجتاحوا الكويت تأزمت حالته النفسية ولحقتها الصحية وأجرى ثلاث عمليات بدلا من واحدة قلقا على عياله الثمانية في الكويت، وبعد اتصال هاتفي مع ابنه البكر، قبل أن يقطع الاحتلال الخطوط الأرضية، استفسر عن بناته فأبلغه ابنه أن الجنود يغتصبون الفتيات، فأمره بتزويج الفتاتين 16 و20 عاما، من ثقات أو أقرباء حفاظا على شرفهما، وهكذا كان العقدان بلا «زغرودة» واحدة، وبقهر الرجال بأن يأخذ الابن مكان أبيه لأن الأخير قيد شتات قسري بلا أجل محدد.
في «أغسطس» كانت ندى تنتظر طفلها الأول بعد سنوات طويلة مرهقة لعلاج العقم، ودخلت مخاضها بعد شهر من الاحتلال، فقد كان خروجها عبر البر خطرا عليها وعلى الجنين، وأنجبت «جابر» الذي رفض الموثق العراقي في المستشفى تسجيل الاسم وأسماه «صدام» وصار الطفل المنتظر يحمل اسم المجرم، بالطبع ورقيا، حتى عادت الشرعية والدولة وتم تغييره إلى «جابر» وبقيت ذكرى الاسم الأول وصمة ألم في تاريخه.
في «أغسطس» كان خالد يستعد ليبدأ عامه الأول في كلية الهندسة في جامعة «ييل» في أميركا بعد أن حصل على تقدير ممتاز في الثانوية العامة نتاج انضباط لأربعة أعوام حتى يحقق هدفه، ولكن بعد أن عرف أن وطنه الكويت تم اختراقه من الشمال إلى الجنوب، اتصل بسفارة الكويت ثم غادر إلى السعودية والتحق متطوعا بالجيش الكويتي، وعندما هبت عاصفة الصحراء دخل وطنه محررا وأمام عينيه أقدام أمه وأبيه لا يريد إلا لثمها.
في «أغسطس» فتح عبداللطيف تاجر الأغذية مخازن بضاعته لتوزيعها سرا على المقاومة الشعبية عبر لجان الجمعيات التعاونية السرية، بعد أن نهب الجيش العراقي وبقيادة الحرس الجمهوري مخازن الأغذية في الكويت بغرض توفير مؤونة للجيش الجائع من جهة، ومن جهة أخرى لتركيع الشعب ليتعاون مع المحتل ويبدل هوياته والاعتراف بأنها المحافظة 19، ولكن هذا التاجر ومثله كثيرون ساندوا أهل الكويت لإنجاح العصيان المدني حتى تم التحرير.
في «أغسطس» سكن الدكتور عدنان في سرداب بيت أحد أثرياء الكويت الذي خصص بيته لتختبئ فيه المقاومة الشعبية، وكان له وسيلة دخول لمخازن أدوية وزارة الصحة، فأفرغ محتواها تباعا وتكبد الخطر الكبير في سبيل ذلك، في السرداب وغيره من الأماكن السرية لتطبيب الجرحى وإجراء العمليات البسيطة لمن يعتقلهم المحتل ويخرجهم بعد التعذيب، توفيت أم الدكتور في الإمارات أثناء الاحتلال ولم يدفنها ويصل عليها، ولكن بره بأمه الكويت بالتأكيد يشفع له تقصيره.
في «أغسطس».. أكمل أم أتوقف؟ سأتوقف.
فلن تنتهي القصص الحقيقية التي حدثت منذ يوم الثاني من أغسطس الحالك السواد، والتي خلفت آثارا نفسية وجسدية وحتى سياسية هي نحت في ذاكرة الوطن والشعب ولن يفقد الوطن ولا الشعب تلك الذاكرة ولن تنفع عملية تجميل لإصلاح ما أفسد الغدر.
يطلقون على إحيائنا نحن ذكرى الغزو العراقي المجرم على الكويت «إثارة الفتنة» بين الأمة العربية وليس ما فعله المجرم المقبور المندس في الجحور وجيشه.
إن كانت هذه هي الفتنة، فنحن أهلها، وكل عام سنعيد ونكرر ونحكي ونقص ولن يغلق أفواهنا إلا الموت، هكذا هم «الفتانين» يدعون المظلومية ويحبون اللطميات، فدعونا وشأننا.