أقلامهم

بعيداً عن السياسة عبدالله خلف يأخذنا لنشاهد قصةً رائعةً من التراث

عبدالله خلف

إني أرى شجراً من خلفه بشر فكيف تجتمع الأشجار والبشر

قالت هذا البيت زرقاء اليمامة واسمها عنْز مع أبيات أخرى، حذرت بها قومها من غدر أعدائها، وقد جاؤوا إليهم مختبئين وراء شجر متسترين به، كما تعمل الجيوش المعاصرة الزاحفة فتموه نفسها بالشجر، وكانت زرقاء اليمامة مشهورة بحدة البصر ترى على بعد ثلاثة أيام وتقول:

خُذوا حِذاركم يا قومُ يَنفعكم

فَليسَ ما قَد أرى بالأمرِ يحتقرُ

انّي أَرى شَجراً مِن خلفه بشرٌ

وَكيفَ تَجتمعُ الأشجار والبشرُ

ثوروا بِأَجمعكم في وجهِ أوّلهم

فَانّ ذلكَ مِنكم فَاِعلموا ظفرُ

ضمّوا طَوائفكم مِن قبل داهيةٍ 

مِنَ الأمورِ الَتي تُخشى وتنتظرُ

فقد زجرت سنيح القوم باكرة

لو كان يعلم ذاك القوم إذ بكروا

ثم تنصح إلى قومها بما يجب عليهم أن يفعلوه من قبيل حسن التدبير الحربي، وتقول:

فغوّروا كلّ ماء قبل ثالثةٍ

فَلَيس مِن بعده وردٌ ولا صدرُ

وَعاجِلوا القومَ عندَ الليلِ اذ رَقدوا

وَلا تَخافوا لَهم حَرباً وان كثروا

وغوروا كل ماء دون منزلهم

فليس من دونه نحس ولا ضرر

وزرقاء اليمامة من قوم جديس وكان معهم قوم طسم، وكانوا جميعا يسكنون اليمامة وهم من عرب العاربة القدماء، ومَلَك عليهم عمليق بن طسم، وكان ظالماً، فاشتكت إليه المرأة من جديس اسمها هُزيلة مع زوجها في ابن لها، فأمر بالولد فجُعل في غلمانه، وأمر بالزوج ان يباع، وتعطى هزيلة عشر ثمنه وأمر بهزيلة أن تباع ويعطى زوجها خمس ثمنها فقالت هزيلة:

أتينا أخا طسم ليحكم بيننا

فابدع حكماً في هزيله ظالما

فغضب عمليق، وأمر بأن لا تتزوج امرأة من جديس حتى تحمل إليه قبل زواجها، في حكاية معروفة خلاصتها أن جديساً انتقمت من طسم انتصاراً لشرفها، فجاء أحد الطسميين وطلب النجدة من حسان من تُبع الحميري، فأنجده وسار الجيش نحو جديس للايقاع بهم، فلما صاروا من جديس على ثلاثة أيام صعدت الزرقاء على منار كان لها لتنظر لقومها، وكان قوم طسم يعرفون أن الزرقاء تبصر من مسيرة ثلاثة أيام فقال بعضهم: ليقطع كل رجل غصناً من شجر فيحمله. فجاء الجيش وفي يد كل واحدٍ منهم غصناً، فرأتهم الزرقاء وقالت يا قوم أتتكم الشجر أو أتتكم حمير، فلم يصدقوها فقالت:

أقسم بالله لقد دب الشجر

أو حمير قد أقبلت شيئاً تجر

فكذبوها، فقالت: أقسم بالله إني أرى رجلاً ينهش كتفاً أو يخصف نعلاً وهذا ما قالته:

إني أرى رجلاً في كفه كتف

أو يخصف النعل خصفاً ليس يعتسر

فلم يصدقوها. فداهمهم الجيش واجتاحهم، وفي ذلك يقول الشاعر:

قالت أرى رجلاً في كفه كتف

أو يخصف النعل لهفي أية صنعا

فكذبوها فوافتها على عجل

أقيال حمير تزجي الموت والشرعا

فاستنزلوا أهل جو من معاقلهم

وهدموا شامخ البنيان فاتضعا

ويقال إن زرقاء اليمامة نظرت يوماً إلى حمام في السماء فقالت:

يا ليت ذا القطا لنا

ومثل نصفيه ليه

إلى قطاة أهلنا

إذن لنا قطاً ميه

وكان عدد القطا أو الحمام ستة وستين فاذا أضفنا نصف عدده وهو ثلاثة وثلاثون كان المجموع تسعة وتسعين، فإذا أضيف حمامة الزرقاء كان المجموعة مئة 66+33=99+1=100.

والمعنى انها رأت الحمام في طيرانه فعرفت عدده رغم تحركه واختلاطه.. وذكر النابغة الذبياني في قصيدة له:

واحكم كحكم فتاة الحي اذْ نظرت

الى حمام شراع وارد الثمد

يحفّهُ جانباً نيقٍ وتتبعهُ

مثل الزجاجةِ لم تكحل من الرمدِ

قالَت:ألا لَيتما هَذا الحمام لنا

الى حَمامتنا ونصفه فقدِ

فَحسبوه فَألفوه كَما حسبت

تِسعاً وَتِسعين لم تنقص ولم تزدِ

فَكملت مائةً فيها حَمامتها

وأَسرعت حسبةً في ذلك العددِ

هذه حكاية زرقاء اليمامة، وردت في كثير من الكتب وهي من نسيج الخيال، والآداب العالمية فيها خيال وصور موضوعة لتشويق الناس..