أقلامهم

مقال ساخن
محمد عبدالقادر الجاسم يكتب عن “شيخ طروادة”

شيخ طروادة

محمد عبدالقادر الجاسم

حين أفكر في التطورات السياسية والدستورية التي تحدث حاليا في المملكة المغربية وفي المملكة الأردنية وفي مملكة البحرين، تتجلى أمامي حكمة وبعد نظر المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح الذي وضع الكويت، قبل نحو خمسين عاما، على طريق الاستقرار السياسي ووفر على رؤساء الدولة الذين أتوا بعده، والشعب معهم، عناء الاضطراب السياسي. كانت “الديمقراطية الكويتية” المبكرة صمام أمان إذ استوعبت تطلعات النخبة السياسية وطاقتها أيضا، فاشتركت تلك النخبة، على اختلاف توجهاتها، مع عبدالله السالم في تأسيس الدولة الحديثة من خلال مؤسسات الدولة التي كانت ناشئة بدورها. وبالطبع فإن تأسيس الدولة كان يتطلب أول الأمر وجود مشروع واضح ومحدد.. إنشاء بنية تحتية خدماتية.. تأسيس بنية قانونية وإدارية.. السعي لتحقيق رفاهية الشعب تحت شعار “الثروة للشعب وأنا حارسها” كما قال عبدالله السالم. وكان الاهتمام بالعنصر البشري واضحا، إذ كان التعليم أحد أهم عناصر التنمية البشرية. أما على المستوى الخارجي فقد كان التركيز على البعد العربي للكويت ومساعدة دول الخليج والتزام الحياد في النزاعات الدولية. كان عبدالله السالم، باختصار شديد، رجل دولة لا حاكم فقط، فلم يكن يهتم بالتفاصيل اليومية ولا بصغائر الأمور وتوافهها.. ولكل تلك الأسباب وكثير غيرها، نال عبدالله السالم رمزيته العظيمةـ ولو استمر منهج عبدالله السالم بعد وفاته، لبلغت الكويت مرحلة “الإمارة الدستورية” ولحافظت أسرة الصباح على مكانتها وهيبتها الاجتماعية ووقارها، ولعم الرخاء والازدهار والاستقرار في العهود اللاحقة لعهده. لكن مات عبدالله السالم ومات معه منهجه.. نعم، ومع الأسف، لم ينجح عبدالله السالم في توريث منهجه السياسي لأحد من الشيوخ.

وحين أفكر في أوضاع الكويت اليوم، أرى أن ما يجري ما هو إلا استكمالا للنهج السلطوي البديل الذي حل محل منهج عبدالله السالم، وهو النهج الذي ظهر بشكل رسمي في صيف العام 1976 حين تم حل مجلس الأمة بطريقة مخالفة للدستور للمرة الأولى. وفي تقديري الشخصي فإن ما يقوم به رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد اليوم ليس مشروعه الخاص فقط، بل هو ينفذ مشروع سياسي “عام ومحدد” يحظى بموافقة ومباركة داخل أسرة الصباح من قبل الشيوخ الذين يكرهون الديمقراطية. ويبدو أن طبيعة الشيخ ناصر المحمد كشخص وتطلعه لكرسي الإمارة كسياسي يدفعانه إلى قبول القيام بالمهمة بصرف النظر عما يتعرض له من محاسبة وتجريح بل وإهانات شخصية في بعض الأحيان لا يتحملها غيره من الشيوخ. إن هناك فروقات كبيرة بين “شخصية” الشيخ ناصر المحمد وشخصيات شيوخ حاولوا القيام بالمهمة التي يقوم بها الآن إلا أنهم فشلوا، وهذه الفروقات هي التي تجعل الشيخ ناصر المحمد “الشيخ الأنسب” لتنفيذ النهج البديل وتكريسه. فالشيخ ناصر يتمتع بقدرة هائلة على تحمل الإساءة، وهو يتمتع بقدرة متميزة على التزام الصمت وعدم الرد على خصومه، كما أنه “كريم” جدا و”مطيع” أيضا.. كل هذه الصفات تخلق منه “الفرصة التاريخية” للتيار المعادي للحريات والديمقراطية في مرحلة لم يعد فيها مجال للمواجهة المباشرة مع “الدستور والديمقراطية” كما حدث في الأعوام 1976 و1986 و1990.. إن الشيخ ناصر المحمد اليوم هو “رأس الحربة” في المواجهة غير المباشرة، وهاهو يحقق “نجاحات” متتالية في تلك المواجهة عجز غيره عن تحقيق مثلها في زمن المواجهة المباشرة.. هذه “النجاحات” هي المبرر الوحيد لاستمراره في منصبه الحالي، وهي أيضا الممر الذي يأمل أن ينقله إلى كرسي الإمارة لاحقا شريطة استمرار “نجاحاته” حتى يحين الموعد الطبيعي للتغيير.

إن النجاح الذي حققه الشيخ ناصر المحمد في فرض النهج البديل (السيطرة على الأغلبية في مجلس الأمة، والتحكم في الإعلام، وتشتيت القوى السياسية، الملاحقات السياسية، ضرب النواب)، نجاح مكلف لكل الأطراف على المدى القريب وليس البعيد فقط.. مكلف للكويت ولأسرة الصباح لكنه لن يدوم. فاليوم ليس لدينا في البلاد سوى مشروع واحد هو مشروع تفريغ الدستور من محتواه وتكريس النهج المعادي للحريات السياسية، وبالتالي فإن مجلس الأمة لم يعد صمام الأمان الذي يستوعب تطلعات وطاقة العناصر الوطنية. ومن هنا رأينا الشباب يخرجون إلى الشارع للتعبير عن غضبهم السياسي.. صحيح أن الاحتجاجات الشبابية لم تنجح في ردع التمادي السياسي، إلا أنها نجحت في خلق حالة من القلق لدى السلطة. وفي تقديري الشخصي أن الاحتجاجات الشبابية سوف تغدو أكثر تنظيما وفعالية قبل نهاية هذا العام، وقد تنجح في ردع التمادي السياسي في الوقت الذي يواجه فيه الشيخ ناصر المحمد استجوابات مهمة في مجلس الأمة بما يؤدي إلى إضعاف فرصته في الاستمرار في منصبه. أقول هذا وأنا مقتنع تماما بأن عزل الشيخ ناصر عن منصبه لن يتم إلا في حال وجود 25 نائبا يؤيدون قرار عدم التعاون معه، أو بلوغ الاحتجاجات الشبابية في الشارع مرحلة لا تتحملها السلطة. وفي تقديري فإن العامل الثاني هو الأقرب إلى التحقق لاسيما إذا احتج الشباب على “النهج” الذي يمثله الشيخ ناصر ومن يدعمه لا على “شخصه”، وإذا اقترن الاحتجاج بمطالبة جدية بإصلاحات دستورية تقود نحو تعزيز وتطبيق فكرة الإمارة الدستورية التي تبناها دستور 1962 وتحد من السلطات غير الدستورية الواقعية للشيوخ.

وعلى الرغم من بؤس المرحلة الحالية سياسيا، وعلى الرغم من تفوق النهج البديل ونجاح مشروع تفريغ الدستور من قيمته، إلا أنه يجدر الانتباه إلى أن السلطة تستثمر حاليا في “أشخاص” من أجل السيطرة على القرار في مواقع شتى.. هذا الاستثمار بطبيعته مؤقت لأن “الأشخاص” عنصر متغير لا يشكلون “أصلا” دائما. بمعنى حين كانت السلطة تسعى لتغيير “البنية الدستورية والقانونية”، كان الخطر المحدق بالحريات خطرا حقيقيا لو نجحت السلطة في مشروعها، أما اليوم فإن السلطة لا تستطيع تغيير نصوص الدستور، وتعجز، حتى الآن، عن فرض قوانين مقيدة للحريات، مكتفية بتفريغ الدستور من قيمته وبتعطيل القانون أو التعسف في تطبيقه، كل ذلك برعاية لن تستمر من “أشخاص لأشخاص”. وبالتالي فإنه حين تزول تلك الرعاية أو تضعف، لأي سبب من الأسباب، فإن البنية الدستورية والقانونية الأساسية التي أقرت في مرحلة تأسيس الدولة الحديثة سوف تسترد قيمتها حتما. فالنهج البديل يستمد قوته الحالية من أشخاص يشكلون “شبكة” أو طبقة سياسية سوف تتفكك في المستقبل القريب بإذن الله ليسترد الدستور قيمته. فما دامت نصوص دستور 1962 سارية لم تمس، فإن كل ما يجري حاليا من تفريغ لها هو عبث مؤقت سوف يزول وإن ارتفعت كلفته على الجميع!