أقلامهم

جاسم بودي يؤكد أن الخطاب المذهبي سينحسر ويتلاشى في نهاية المطاف لكنه يدعو للمباشرة ببناء حوائط الصد كي لا نستمر في الضحك على أنفسنا

لانضحك على أنفسنا


جاسم بودي


مؤمن تماما أن الخطاب المذهبي الطائفي سينتهي في نهاية الأمر لحساب لغة العقل والبناء والتقدم والفكر المدني المتحضر. وأتمنى أن نصل إلى هذه المرحلة بأقل قدر من الخسائر والا ينهار الهيكل على رؤوس من فيه على قاعدة «عليّ وعلى أعدائي»… فالتطرف بيئة حاضنة للمشاعر الانتحارية حيث يلغي الانسان عقله ويستخف بقيم الدين والدنيا ويتجاوز حدود الشرع والتشريع.
موجة التعصب الطائفي والمذهبي ستنكفئ في النهاية طال الزمان أم قصر. لأن الطبيعة بحد ذاتها تقتضي أن يتعلم المرء ويتعاون ويتكاتف ويتحاور وينفتح ويتسامح ويعمل ويبني أسرة. المذهبية ليست وجبة يمكن أن تفيد الجسد بل هي سموم يمكن أن تهدم العقل. والطائفية ليست منهجا يبقي الإنسان على تواصل مع الثورة العلمية العالمية بل هي جدار سميك يحجب الرؤية ولا يسمح إلا لكل قيم التخلف بالتمدد خلف هذا الجدار. والتعصب والعزلة والانكفاء لاتؤمن مقعدا في صرح علمي ولا وظيفة محترمة ولا مكانة اجتماعية بل مكانا في كهف… حتى لو كان هذا الكهف في ناطحة سحاب حديثة.
ورغم حدة الخطاب الطائفي والمذهبي الموجودة في أكثر من منطقة عربية وبينها الكويت، ورغم وجود من يصر على تحويل هذه اللغة إلى مؤسسات إعلامية وحزبية واجتماعية وشعبية إلا أن منطق الأمور يفيد بأنها ستنحسر نتيجة الخسائر التي أصابت أصحابها قبل غيرهم من جهة ولأن المجتمعات يستحيل أن تتقدم على قواعد التشرذم والتخلف من جهة أخرى. بعضهم يرى انه «انتصر» هنا او هناك، لكن انتصاراته على أخوة له في الدين والدنيا إنما هي في النهاية داخل شرنقة محصورة تزداد ضآلة، وعندما سيخرج منها المرء بالحدود الدنيا للسلامة العقلية والبدنية سيكتشف عالما انسانيا آخر لا علاقة له به وقد ينتهي به الأمر الى التطرف المعاكس.
الحراك السياسي العربي والشعارات الجامعة الشاملة التي رفعت قضمت جزءا من الخطاب الطائفي – المذهبي، والرغبات في التغيير لن تستثني طبعا النظام الطائفي والسلطة المذهبية سواء تمثلت في حزب أو دولة. ألم يكشف الهدوء النسبي للمشاحنات والصراعات في بعض الدول أزمات اجتماعية وأمنية شخصية لبعض الاحزاب المذهبية والطائفية؟ ألم تنتشر الظواهر السلبية بين المنتسبين الذين لم يعد يربطهم بالسلطة التي تحركهم سوى خطاب لا يسمن ولا يغني من جوع؟ ألم يكتشف هؤلاء الشبان أنفسهم أن قياداتهم لا تختلف في شيء عن قيادات الانظمة المتسلطة حتى لو سترت لغتها بطابع المذهبية والطائفية؟ ثم كيف يمكن مع ثورة الاعلام والاتصالات ان يستمر غسل عقول النشء بكلام عن «الآخر» فيما تصفح صفحات عبر الموبايل كفيل بكشف زيف الادعاءات؟
الموجة ستنحسر طال الزمان أم قصر، ولكن كي لا نضحك على أنفسنا يجب ان نعترف بمسؤولياتنا جميعا في تغذية هذه الظاهرة. من البيت الى المدرسة الى العمل وصولا حتى الى النخب السياسية والنواب والحكومة. تأصلت في النفوس بعض شظايا الهذيان الطائفي حتى لو أنكر المنكرون. تأصلت في العادات والاسوار التي رفعناها اجتماعيا فساهمت في دعم الاسوار الطائفية والمذهبية. تأصلت في اللغة وفي التساهل مع متحدثيها وفي ايجاد الأعذار لهم. تأصلت في اهتمامنا بـ «السخيف» من القضايا وجعله محور الحياة الاعلامية والسياسية حتى شجعنا «الاسخف» على التنطح والمبادرة كون الجمهور المتعصب «عاوز كده» وكون القيادات الذابلة وجدت من يرش عليها بعض الماء.
كي لا نضحك على أنفسنا، علينا أن نعترف جميعا، بمسؤولياتنا وان نبدأ تغييرا مبرمجا مدروسا للسياسات والمواقف. التقسيمات الانتخابية غذت أيضا الظاهرة وساهمت في تأجيج مواقف نيابية ليست محتاجة اساسا للوقوف عندها انما حصل ذلك كونها تلقى هوى في نفوس بعض العامة والناخبين تحديدا. والتيارات الحزبية حملت هذه الظاهرة إلى مكان أعلى نتيجة الشحن والتغذية في الأماكن المغلقة كون العمل الحزبي في الكويت «محجوبا – مسموحا». والحكومة أيضا ساومت هنا وعقدت صفقات هناك وتسامحت هنا وتشددت هناك ما شكل على جانبي تصرفاتها دوائر طائفية أفادت… واستفادت. ناهيك طبعا عن بعض رجال الدين وبعض المساجد الذين لا نريد أن نتحدث عن دورهم هنا كي لا نقع نحن أيضا في المحظور.
انحسار الموجة قادم، لكننا يجب أن نكون في مقدمة الذين يبنون حوائط الصد لا أن نكتفي فقط بكوننا شهودا على مرحلة. اللهم إلا إذا أردنا ان نستمر في الضحك على أنفسنا وهو الضحك الذي سينقلب حتما إلى… بكاء وعويل.