كتاب سبر

تبريد الثورة المصرية

أفضل تشبيه قيل عن الثورة حتى الآن، هو أنها تشبه “صينية المكرونة بالبشاميل”، التي وضعها المجلس العسكري، الذي يتولى إدارة شئون البلاد، في الثلاجة، واكتفى بذلك، وعندما يخرج الثوار للاحتجاج ويطالبون بثورتهم، يقوم بإخراج شريحة من” الصينية”، لهم، ويعيد وضعها في الثلاجة.

المجلس العسكري، هو ابن الدولاب البيروقراطي الحكومي، هو ابن بار للبيروقراطية العسكرية، لذا فتعامله مع الثوار يشبه تعامله، مع جندي “مستجد”، لا يسمع الكلام، أحيانا يحتاج إلى التأنيب، وأحيانا التلويح بمكافأة، وأحيانا اللعب على عواطفه ب”الكلام الكبير”، لكن في كافة الأحوال هو يضعه في ثلاجة الأوامر العسكرية.

ثلاجة الأوامر العسكرية، التي استخدمها المجلس مع “صينية المكرونة بالبشاميل”، المساة “بالثورة”ن تعمل منذ ستة أشهر، بلا كلل، في الوقت الذي يحاول فيه المجلس إقناع الناس بالاكتفاء بما حدث، فقد سقط مبارك، واصبح الحديث عن فساده ممكنا، والكلام عن مرضه مباحا بعد إباحة الكلام عن أمواله الخاصة ونهبه واستيلائه على أموال الدولة وتهريبها إلى الخارج هو وولديه، أيضا سقط بعض رموز النظام السابق وهم محبوسون الآن.. وكفى المؤمنين شر الكلام عن الثورة وأهدافها من تغيير النظام بالكامل ومحاسبة الفاسدين من النظام السابق.

تقريبا المجلس العسكري يفهم الثورة “غلط”، هو لا يعرف أن الثورة تعني التطهير بالكامل، وتعني الحصول على حق الشهداء والمصابين، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة يمكن أن تضع البلاد فى مكانها الصحيح بين الأمم، بعد أن جعلها النظام السابق فى ذيل الدول المتخلفة، ووضع دستور جديد يليق بمكانة مصر والمصريين الذين قاموا بأعظم ثورة بهرت العالم كله.

ما حدث خلال الستة أشهر الماضية هو أنه  قد جرت تحالفات كثيرة من أجل تبرير الثورة، مع قوى كانت تحرّم الخروج على الحاكم، واتخذت مع قوى أخرى مواقف مترددة من الثورة فى أيامها الأولى التى سقط فيها آلاف الشهداء والمصابين، ولم تشارك فى الثورة إلا بعد التأكد من سقوط النظام الأمنى الذى كان يتحكم فيهم ويحركهم كأنهم دمى، فإذا بهم الآن يسلمون أنفسهم لقوى أخرى تحركهم ضد الثورة والثوار.. فهؤلاء هم الذين حصلوا على المكسب السريع من الثورة وجنوا الثمرة مبكرا.. وذهبوا.. فهم مستعدون للتحالف والعمل مع أي نظام.. 

المجلس العسكري يدرك كل هذا، والإشكالية الأكبر أنه يجلس الآن على رأس الذين يريدون تبريد الثورة، بمساعدة الحكومة التى أصبحت تابعة له،  بعد أن تخيل الثوار أنها حكومتهم، وأنها ستحقق مطالبهم حتى لو حدثت مواجهة بين الحكومة والمجلس فيكون الانحياز إلى الثورة والثوار.

المجلس الأعلى للقوات المسلحة صنع مئات من ائتلافات الشباب لكى يضرب الائتلاف «الأصلي»، ائتلاف شباب الثورة الذى توافقت القوى السياسية بما فيها الإخوان فى أثناء الثورة عليه، المجلس العسكرى نفسه عقد معهم عدة جلسات ليأتى الآن ويقول إن هناك ائتلافات أخرى للشباب وفى الوقت نفسه تعلن جماعة الإخوان أن ليس لها ممثلون فى ائتلاف شباب الثورة، لكن كثرة الائتلافات ساهمت فيما تهدف إليه القوى المضادة للثورة من تفتيت للثورة وللثورة، ولمطالبها ذاتها.

حالة البطء الشديد فى اتخاذ القرارات وترسيخ القوانين ليست إلا حالة من حالات تبرير الثورة، ليس هذا فقط فهذه القوانين نفسها التى صدرت هى قوانين «معيبة»، مثل قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون انتخابات مجلسى الشعب والشورى.. وتخلق حالة من الجدل العقيم والاستقطابات بين القوى السياسية، فمن هو موافق عليها فهو مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومؤيد لسياساته.. ومن هو ضدها فهو ضد المجلس الأعلى.. وهكذا…

أيضا حالة الإعلام وإعادة السيطرة عليه.. وقد عادت التعليمات مرة أخرى كأننا نعود إلى العصر السابق.. بل إن عودة وزارة الإعلام هى من أعمال تبريد الثورة.. وأمام فشل تلك المحاولات لتبريد الثورة وخروج الثوار الحققيين مرة أخرى فى 8 يوليو والاعتصام فى ميدان التحرير وميادين مصر التى شهدت الثورة لاستعادة الثورة وتأكيد أن الثورة رفعت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وإن سقط رأس النظام فإن جسد النظام ما زال قائما يعبث فى مقدرات الثورة، فلم يعد إلا العمل على «تقزيم» الثورة وإلقاء التهم «جزافا» على الثوار.. هو أمر غريب وعجيب من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى حرص فى بياناته على تعظيم الثورة والثوار وشباب وشعب مصر العظيم ليأتى البيان رقم 69 ليتهم فصيلا مهما بالعمالة والخيانة والعمل على تقويض مصالح البلاد، وهى لغة جديدة..

ولم يكتف المجلس العسكرى بذلك فقد خرج علينا اللواء حسن الروينى باتهامات غريبة لشباب «6 أبريل» من رصد المجلس الأعلى تحركات أعضاء حركة «6 أبريل»، من تدريبهم فى صربيا وتلقيهم أموالا كأن الثورة قامت من صربيا وبأموال خارجية.. أليس هذا المنطق هو نفسه الذى تعامل به نظام مبارك وأجهزته الأمنية التى كانت تسيطر على الإعلام وتحركه؟

أيها المجلس العسكري، أيتها الحكومة التي ظنناها مع الثورة 

لن تستطيعوا تقزيم الثورة..

فالثورة قائمة..