أقلامهم

عبدالله بشارة يرى أن الكويت كتب عليها ألا تعيش بلا ضجيج لهذه الأسباب

العيش في زمن الاختلالات
عبدالله بشارة
 
كتب الله على الكويت، منذ تدفق النفط، ألا تكون دولة عادية تعيش مثل الآخرين بهدوء وبلا صخب وبدون ضجيج أهلها الذي لا يتوقف.
كانت الحياة قبل النفط أسطورة كتبها الكويتيون السابقون، بعرق يتصبب، وعزم لا يقهر، وركبوا البحر، أسودا، راضين وشاكرين بما يملكون، ويأتي النفط مفجرا ثروة غير متوقعة لم تكن في الحسبان، وتتبدل الكويت ويتغير شعبها، ويزول الجد وتضيع العزيمة، وتتسلل الاتكالية الشاملة في العيش على ما يأتي من الأرض، ثم تتدخل السياسة لتغدق من منابع النفط بلا عقلانية ولا حساب، وتنحو بمخصصات الميزانية نحو أغراض سياسية بعيدة عن أهداف التنمية، وينتشي الجميع من أفراد المجتمع بهدر غير مألوف تحت حجج واهية في بدلات وتخصصات ومنح وعطاءات، وهي في واقعها استرضاءات سياسية تقدمها الدولة لحسابات داخلية ترضية لمبالغات نيابية فجة وغير قانونية في المطالبة باللامعقول من المال العام.
ويأتي خطاب سمو الأمير يوم الاثنين الماضي، أمام اللجنة الاستشارية الاقتصادية – وهي لجنة الانقاذ – معبرا عن ضيق وتبرم من مشهد الاسراف والتبذير، وأهم ما في هذا المشهد اختفاء الشعور الوطني بالحرص على أموال الشعب وممتلكاته.
يقول سمو الأمير [ان الممارسات العملية في سوء استغلال الفوائض المالية وعدم استثمارها في الوجهة الصحيحة قد أديا الى جملة من الاختلالات الهيكلية في اقتصادنا الوطني، باتت تشكل عبئا ثقيلا وهاجسا حقيقيا يهدد مستقبل البلاد وقدرتها على تنفيذ برامجها ومواجهة التزاماتها المالية المختلفة].
واذا كان سمو الأمير قد نبه في الفقرة السابقة الى ثقل الأعباء في سوء استغلال الفوائض المالية، فان الفقرة التالية تتحدث عن نتائج هذا الاسراف غير المسؤول، وذلك عندما يقول [بأن استمرار الهدر الاستهلاكي غير المسؤول والافراط في زيادة الانفاق الجاري غير المنتج أدى الى الانحرافات والاختلالات وتعقدت آثارها ونتائجها].
والحمد لله ان سمو الأمير على وعي تام بما يدور في الساحة السياسية والاقتصادية من تدمير تام لأسس الدولة الحديثة التي تقوم على الشراكة الفعالة مع المواطن في تأدية دوره، كمساهم في مسيرة التنمية بدفع الرسوم والضرائب والالتزام بقواعد القانون وتلبية المسؤولية، مع التمتع بحقوق المواطنة.
والواقع ان الكويت تعاني حاليا من أزمة سياسية دستورية لابد من معالجتها لكي لا تظل مستعصية على الحلول، فالاختلالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية كلها افرازات مؤلمة لواقع سياسي متجمد وشبه متخشب منذ اقرار الدستور، فالحكومة التي تواجه البرلمان – بلا أغلبية – تلجأ أينما تكون، في الكويت وغيرها، الى ممارسة الابتكارات لكي ترضي النواب العاصين الذين تذوقوا متعة القوة ولذة التعالي في فرض ما يريدونه على الحكومة التي تنتصر لما يريدون من بدلات وعلاوات وامتيازات ومكافآت وتشريعات مضرة بالبلد وقرارات عقيمة حولت الكويت من موقع الانفتاح والاقتباس الى مجتمع مغلق طاردا للتجديد ومشككا في التحديث، ومن شعب متوقد ومقتحم وجريء الى شعب يتغذى على هبات لا تتوقف من المال العام، وبعد ان كانت الكويت رائدة في الابتكار والابداع تحولت الى ساحة تقصي المواهب وتحارب الخيال، مما أدى الى اتساع منافذ الخلافات وتبادل الاتهامات والاستخفاف بمن يحمل رأيا مخالفا.
هذه هي الاختلالات التي بدورها خلقت بيئة الفساد المنتشر والمستشري، ونقصد فساد الذمم في المعاملات والمناقصات وفي الاجراءات الادارية البسيطة التي لا تتم دون دفع الهدايا والعطايا.
كيف تقاوم الكويت آفة الفساد؟
ليس من السهل طالما استمر الوضع السياسي على حاله دون تحولات سياسية بنيوية تتسع فيها مسؤولية الارادة الشعبية في القرار السياسي وفق برامج تضعها تجمعات سياسية تسعى للفوز في البرلمان اعتمادا على أجندة شفافة تتناول السياسة والاقتصاد والتعليم وتتعهد بالقضاء على معاناة المجتمع وأهم معالمه الفساد.
بعد نصف قرن من التجربة البرلمانية، تجد الكويت نفسها الآن في مطب الجمود وأسيرته، ولابد ان تخرج منه وفق أحكام التطور، فاذا كان الدستور حمى الكويت من فوضى الربيع العربي في هذه الفترة، فليس هناك ما يضمن بأن الدستور الحالي قادر على التعامل مع تحولات المستقبل، فالمتابع لأحوال الدول العربية يقف عند اشارات الأردن في التطور الدستوري وعند المغرب في اتساع دور البرلمان، بينما الكويت الآن جامدة في عنق الزجاجة، والتحدي أمامها، كيف تعبر من الاختناق الدستوري الى الساحة الأرحب، وكيف تخرج من مصيدة الجمود؟
ستأتي اللجنة الاستشارية بحلول اقتصادية صائبة تحتاج الى تنفيذ، وتتطلب قدرة حكومية على مواجهة البرلمان والتصدي للعبثيات والمزاجيات والعشوائيات، والى عزم وتصميم، بوضع القانون فوق أي مقام آخر، والقانون جوهر الديموقراطية، فقد جاءت الاختلالات وتسيدت مناخ الكويت بسبب عدم تطبيق النظام والقانون وبسبب الحياء من الاصرار عليه واستسهال الترضيات على المواجهات.
لا يمكن لبلد ان يتطور مع برلمان يتطاول على حقوق الحكومة وهي السلطة التنفيذية ولا يحترم مبدأ فصل السلطات ويفرض نفسه في صنع المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وفق المنحى الذي يرضي الناخب.
هذه بلوة الكويت في برلمان طاغٍ على السلطتين في التشريع وفي التنفيذ، مع حكومة تجامل وتسترضي وتساهم، غصب عنها، في الاختلال لأنها تريد ان تخلص، بأي ثمن، من قبضة النواب وتبتعد عن سلاطة تدخلاتهم.
ومن أجل ان تحد من نفوذ النواب، لابد ان تمارس الحكومة حقها في ان تقود ولا تنقاد، وأن تتحدث الى الشعب وبثقة عن اصرارها على انجاح خطتها وبلا تردد.
أعتقد ان تحديث الدستور وتعميق الشرعية الدستورية بآلاتها الحديثة، فضلا عن صلابة الشرعية التاريخية الثرية التي يجمع عليها الشعب بكل أطيافه وطوائفه ومنظماته المدنية، سيساهم في صناعة الوصفة المناسبة والفعالة لوضع حد للاختلالات التي تتسيد الكويت وبكل أشكالها لاسيما الاختلال في الذمم.
هناك خمس ضرورات لابد من التعامل معها، وستساعد في معالجة الاختلالات:
1) مواجهة ضعف الحس الوطني في الحفاظ على المال العام وتعزيز الايمان والالتزام بسلامته والدفاع عنه وصيانته عبر التثقيف والعقاب وفرض القانون.
2) القضاء على الآليات التي أدت الى الاختلالات وأبرزها تحريك الجمود السياسي واخراج الكويت من حالة التأزيم السياسي التي فرضته سطوة النواب وضعف الحكومة.
3) النظر بجدية لاخراج الحالة السياسية من القبضة الفرعونية التي فرضها الدستور على الكويت، والدفع بالحوارات السياسية للوصول الى صيغة دستورية تتوافر فيها المرونة وتحرر الحكومة من الجمود ومن القبضة السياسية للنواب.
4) التخلص من المحاصصة في اختيار الجهاز التنفيذي من وزراء وبيروقراطيين ورؤساء أجهزة ومسؤولي المؤسسات، وجعل العبرة بالكفاءة وحدها.
5) حماية الجهاز الوظيفي من غزوات النواب وحماية الموظفين من الترويض القبلي والطائفي وادخال عقوبات لمن يتساهل في اسرار الوظيفة ومن يتحايل على بنودها بتسريب الأخبار ومن يستسلم لاغراء الرشوة وجاذبيتها.
لن تختفي الاختلالات في وقت قصير، وانما علينا الاستفادة من الزخم الذي رافق خطاب سمو الأمير الذي حدثنا سابقا عن بلوغ السيل الزبى، فمن حق الناس ان تتفاءل بعد تدخل سمو الأمير، في نجاح اللجنة الاستشارية بوضع الأسس لدرب مستقبلي آمن، مستقر، ومزدهر.