أقلامهم

عبدالله بشارة يتحدث عن قرار وزارة الأوقاف المتعلق بوقف الخطباء ويرى أن من الحكمة أن يرفع الحظر عنهم إذا التزموا بميثاق الوزارة

المآثر والمخاطر في خطبة الجمعة


عبدالله يعقوب بشارة


أتابع قرار وزارة الأوقاف الذي صدر لوقف خمسة خطباء عن تقديم خطبة الجمعة بعد ان استاءت الوزارة من تدخلات سياسية، رأت الوزارة فيها خروجا عن المألوف، وبسبب ما أثاره هذا القرار من استهجان من المؤيدين والمتعاطفين والداعمين، وأعتقد بأن هذا الاجراء غير مسبوق، فلم أقرأ عن قرارات سابقة أوقفت خطباء عن ممارسة مسؤولياتهم، ومن الحكمة ان يرفع الحظر عنهم اذا ما تعهدوا بالتزام ضوابط الوزارة.
أذهب إلى صلاة الجمعة بانتظام أينما كنت في محيط العالم الإسلامي، وأتردد على مسجدين بانتظام وثالث وفق الظروف، وحملت معي من هذا الانتظام شعورا بثقل مسؤولية الخطيب، وبمخاطر ما يمكن ان تفرزه الخطبة الركيكة، وشعرت بالحساسية الدقيقة التي قد يثيرها الخطيب خاصة اذا لم يكن على وعي بالمأمورية الدينية والاجتماعية التي يتولاها، وكنت أستغرب من السماح لوزارة الأوقاف لأعداد من الخطباء من أصحاب المستوى المتواضع غير القادرين على فهم طبيعة المهمة الملقاة على كاهلهم، لأنهم لم ينالوا التأهيل المناسب الذي يبرر وقوفهم على المنبر للحديث إلى أعداد كبيرة من المصلين الذين ينتظرون سماع ما يفيد، وبأسلوب جذاب وبالقاء مرتفع.
كنت أستمع إلى معظم هؤلاء في المسجد وأشعر بأنهم موظفون فقط، يلقون الخطبة من أوراق مكتوبة، محشوة بمفردات دينية أو من أيات مقتبسة من القرآن الكريم، بينما خطبة الجمعة لها شروط ولها مغزى تربك الخطيب الذي لا يملك القدرة على الامساك بخيوط المهمة العالية.
خطبة الجمعة هي تعريف وهي تثقيف وهي تهذيب، لابد ان تذكرنا دائما بأن جوهر الإسلام الشورى والمشورة ولا اكراه في الدين ولا ضيق ولا تضييق، ولا غلاظة، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}، وأن الدين يسر وليس عسراً، وقد انتشر الدين ببساطته وبحواراته مع أهل القرار والقوة، فلا حواجز ولا استكبار ولا وسطاء، والدين نظافة اليد واللسان وسمو في السلوكيات وعفة في الضمير وتشويق في معانيه، فلا غلو ولا تعصب ولا تهديد أو وعيد.
أذهب إلى مسجد البحر في السرة بالقرب من منزلي، واستمع إلى شاب كويتي سلفي، يقدم خطبة الجمعة عن الشأن الاجتماعي مثل المخدرات والانحلال والنفاق وحب الاستعراض، وبسهولة، ينهي الخطبة في دعاء واضح لا يشتم الآخرين ولا يتطاول على غير المسلمين، ولأن المسجد مبني في وسط منطقة سكنية كويتية، فمعظم المصلين من أهل المنطقة من الكويتيين، الذين يتابعون ويفهمون ما يقول باستثناء أعداد من مسلمي آسيا الذين ما ان يبدأ الدعاء هبوا من غفلتهم مرددين معه آمين، آمين وتنتهي الصلاة بعشرين دقيقة، وشعوري بأن خطيب المسجد مدرك لمسؤوليته وعارف بما يجب ان يقال وما لا يجب ان يقال.
وفي مسجد آخر أتردد عليه في منطقة الدعية حيث توجد في صباح كل جمعة مجموعة من أبناء السيف من منطقة شرق، حديثنا كله أشواقيات عن أيام زمان وعن أحوال الأصدقاء وعن آخر المستجدات في فنون البحر وآخر المبتكرات في آلياته، ثم نذهب معا إلى مسجد حسان بن ثابت في المنطقة، وهناك نستمع إلى خطيبنا المصري الشاب المتحمس القادر على الخطابة لساعتين، أو أكثر لو سنحت له الفرصة، ويردد علينا الآيات المناسبة ويكثر من الشعر متنقلا بين زهير بن أبي سلمى، إلى أبو تمام ومنه إلى شوقي وحافظ ابراهيم، ونأخذ عليه اقتباساته الكثيرة من الشعر الذي يشاركه القليلون من الكويتيين في الاستحسان وباقي المصلين من آسيا وقليل من مصر، لا يحركهم الشعر، أراهم بجانبي مرتاحين بعيون مغلقة يتحركون عند الدعاء ويرددون معنا آمين آمين، هذا الخطيب يكثر من لعناته على غير المسملين مع تمنياته بأن تتقطع أوصالهم وآياديهم لكنه أدرك اعتراضنا على ذلك، فتوقف واختصر.
وأحيانا أذهب إلى مسجد عبدالله العوضي في شارع أحمد الجابر الممتلئ بالآسيويين، أكثر من ألف مصلٍ، ولا يزيد عدد الكويتيين عن خمسة أوستة، لان المنطقة تجارية يقطنها الخياطون والعاملون في المطاعم وخطيبنا هناك لطيف المعشر، يقرأ من ورقة أعدت بأسلوب يخلو من التشويق، لكن الأجواء لا بأس بها، فالمصلون من الآسيويين وهم الأغلبية في شبه ارتخاء لا يتابعون ولا يفهمون ما يقال، ويتحركون عند قيام الصلاة.
هذه نماذج من حقائق أعرفها تساعد القارئ في الوقوف على صعوبة وزارة الأوقاف مع خطباء الجمعة، ليس من السهل العثور على متطوعين كويتيين لائقين، يتحلون بالقدرة على عزل المشاعر الخاصة عن واقع سياسي واجتماعي يتابعونه، وقضية الخمسة الموقوفين هي متابعتهم لأحداث سورية وتفاعلهم معها وانحيازهم إلى فريق الضحايا وهم العزل من شعب سورية، وشخصيا لا أجد غضاضة في تفاعل الخطيب مع مايدور وتأثره بما يقع في سورية أو غيرها، لكن المهم ألا يبالغ في الاندفاع في توظيف ما لا يليق في بيوت الله حيث لا يجب ان يتم فيها سوى ما يليق من مفردات وسلوكيات، وأعتقد بالامكان ان يلتقي التفاعل مع علو التعبير، فكرامة الإنسان من جوهر الدين، وسلامته من شروط الإسلام، وحقوق الإنسان المبدأ السامي في الدين العظيم، والدعوة للاعتراف بحقوق الإنسان ليس فيها خروج عن الدين اذا ما أحسن الخطيب التعبير عنها بكلام عاقل، وروعة الإسلام في بساطة تعبيراته، مع الدعوة للتفاهم والحوار وإصلاح البين بين المتخاصمين.
ليس من السهل على وزارة الأوقاف توفير الكفاءات المطلوبة لخطبة الجمعة لاسيما أن خطباء المساجد ينتمون إلى جنسيات مختلفة، يتحدث الخطباء من الكويتيين بالسياسة مندفعين بتفاهم مع ضحايا الأحداث، ويتحدث الآخرون باسلوب حذر وبعموميات متيبسة بلا طعم، ويتحدث البعض بمفاهيم الأزهر وبشاعرية مفرداته، فلا عجب اذا تضايقت الوزارة من المبالغات والاندفاعات وتبني بعض الخطباء مواقف المتشددين من المعترضين السوريين.
خطبة الجمعة أمر صعب ومسؤولية دقيقة قد تخلق المشاكل ان لم يكن الخطيب قديرا ومستحقا للوقوف على المنبر.
كانت منابر الخطيب هي المكان الذي يخرج منه منهج الحكم ويقف منه المسلمون على قيادة الحاكم وسلوكيات الحكم، فمن يقرأ خطب الخلفاء الراشدين يقف على شخصية القائد، فكلام الخليفة أبو بكر يحمل شفافية الخليفة، وخطب الخليفة عمر مرآة لنهجه، وأحاديث الخليفة عثمان فيها شخصيته الودودة، وكل ما قاله الامام على في نهج البلاغة اعترافات عن آلامه وآماله.
نحن الآن أمام واقع تعانيه أوقاف الكويت، ندرة الخطباء القادرين وحماس البعض، وغلو الآخر، وحيرة المنتدب منهم، وضعف المتوافر، مع مصلين من جنسيات مختلفة، منهم المتفاعل مع الخطيب، ومنهم المتضايق منه، ومنهم المحايد الذي لا يعرف ما يقال، ويتمتم بالآمين، ومنهم المتابع مثلي الذي لا يقصر في لوم الوزارة، على ما تقوم به، ودون تقدير وتثمين لواقع صعب يعيش فيه المسؤولون في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
لكن تبقى حقيقة ان الخطبة الجيدة مآثر تفيد وتؤثر، والخطبة الفقيرة انزلاق إلى مخاطر مزعجة ومحرجة.