كتاب سبر

الثورة.. بين الشريعة والمشروعية

في ظل تنامي الحالة الإسلامية، من الطبيعي أن يُثار سؤال “تطبيق الشريعة الإسلامية” في سياق الحديث عن الثورات العربية، بل إن مجرد إثارة هذا السؤال دليل على حضور الحالة الإسلامية في الأذهان وفي الساحة، وأنها حالة ضاغطة وحاضرة في الشعور العام. 

لكن من الضروري أن يكون هذا السؤال في موقعه الصحيح؛ فتطبيق الشريعة الإسلامية تسبقه عدة مستلزمات واستحقاقات يجب أن تتوافر في أرض الواقع لضمان تطبيق أمثل للشريعة، فلا يمكن تطبيقها في ظل أنظمة استبدادية فاسدة أهلكت الحرث والنسل، وألقت بظلال ثقافتها البائسة على الأمة لسنوات عدة، من هنا كان من الضروري الحديث عن المشروعية السياسية للسلطة، كمقدمة واجبة التحقق قبل العمل على تطبيق الشريعة؛ لأن كل المحاولات التي قامت بها السلطات التي فقدت المشروعية من أجل محاولة تطبيق الشريعة أنتجت لنا واقعا مسخا، يرفع شعار الإسلام ظاهرا، لكنه أبعد ما يكون عن روحه وحقيقته!

لقد جاءت هذه الثورات لتسقط أنظمة فاقدة للمشروعية، ولتعيد الأمر إلى أهله (وأمرهم شورى بينهم) فالسؤال هنا عن التطبيقات الإجرائية للشريعة، والشعوب ما زالت في مرحلة كسر القيود، واستعادة الحقوق، هو سؤال في المحل الغلط، فنحن في مرحلة استعادة الحقوق الإنسانية والسياسية، التي تُبنى عليها الشريعة ولا تقوم بمعزل عنها، فضلا عن أنها جاءت لحفظها وصيانتها، فلا يمكن للمُكلّف أن يحمل رسالة الشريعة وهو مكبل بقيود العبودية لأنظمة فاقدة للمشروعية!

 بالإضافة إلى السبب السابق الذي يجعل السؤال عن تطبيق الشريعة في محل الغلط، وهو أن الثورة قامت من أجل استعادة المشروعية السياسية للسلطة، وإزالة العوائق التي صنعتها تلك الأنظمة بين الأمة وخياراتها الحقيقية، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قريش عندما منعوه من الدعوة: ” ..ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافرون، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ” (رواه أحمد).. إضافة إلى ذلك فإن قيام الثورة هو تحقيق لمقاصد وقيم إسلامية رفيعة لا يمكن أن تقوم أحكام الشريعة و تطبيقاتها في ظل غياب تلك القيم.

إن هذه الثورة جاءت لتقيم ميزان العدل الذي اختل في ظل الأنظمة الاستبدادية، فإقامة هذا الميزان هو من صميم الشريعة، وإن لم يرفع الثوار لافتتها، فمن أجل إقامة ميزان العدل أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط} (الحديد25)، يقول ابن تيمية: “..وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين، ليس فيه نزاع، وهو من الأحكام التي يجب اتفاق الأمم والممل فيها في الجملة؛ فإن مبنى ذلك على العدل والقسط الذي تقوم به السماء والأرض، وبه أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل” (مجموع الفتاوى 30/263)، فإغاثة المهوف، ونصرة المظلوم، ورد المظالم، وتمكين الحقوق، وإقامة العدل، كلها قيم شرعية عليا، يجب تحقيقها وتأييدها، يقول النبي صلَى الله علَيه وسلم: «لَقَدْ شَهِدْتُ في دارِ عبدِ الله بنِ جُدْعَانَ حلفاً، ما أُحِبُّ أَنَ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ، ولو أُدْعَى بِهِ في الإسلامِ لأَجَبْتُ» (رواه البيهقي)، وكان هذا حلف الفضول الذي أقامته قريش في الجاهليه، وشارك فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولو دُعي إليه وهو في الإسلام لأجابهم إليه رغم ببقائهم على الشرك والجاهلية!

يجب أن نبعد عن أذهاننا تصور أن يكون تطبيق الشريعة تحت رعاية أنظمة أبخست الميزان وطغت فيه {ألا تطغوا في الميزان}، من هنا فإن إزالة أي نظام يطغى في الميزان هو عملٌ شرعي يحقق الغاية العليا من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وهو عمل مشروع في ذاته، وغير مفتقر إلى شعارات ولافتات!

إنه من الضروري أن نصحح تصوراتنا عن واقع المسلمين، ولا نطرح استشكالات شكلية، وليس لها وجود إلا في الأذهان، فالواقع يؤكد أن الجماهير العربية في عمومها تفيض عاطفتها بالإسلام، وتهفوا قلوبها ومشاعرها لرؤية دينها مُعززا ومكرما، فهي لا تشعر بأي خصومة تجاهه، بل هي متشبعة بمشاعره وشعائره وشرائعه، من هنا فإن أي مشروعية سياسية حقيقية تمثل الأمة لا يمكن أن تكون نتائجها مصادمة لهذا الواقع الإسلامي الضاغط، لذلك يجب تفويت أي فرصة لمحاولة اختلاق الصراع بين إقامة المشروعية السياسية، وبين تطبيق الشريعة الإسلامية، لأنه متى ما تحققت المشروعية السياسية في ظل مجتمع مسلم، فإن الحاكمية ستكون للشريعة قطعا.. وكفى الله المؤمنين القتال!