«الفساد.. من يحمي من؟!»
رياض الصانع
الفساد هو أحد الأمراض الأكثر فتكا ببنية المجتمعات، ويختلف المفكرون والمحللون في وضع تعريف محدد له لكن معناه الأوسع يعني إساءة استخدام السلطة العامة، لأهداف غير مشروعة، هذه الأهداف التي غالبا ما تكون شخصية، وعلى العموم فكل أنواع الأنظمة السياسية معرضة للفساد السياسي الذي تتنوع أشكاله بين المحسوبية والزبونية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ ومحاباة الأقارب والاحتيال. ورغم أن الفساد السياسي يسهل النشاطات الإجرامية من قبيل الاتجار في البشر وغسيل الأموال، فهو بالمقابل لا يقتصر على هذه النشاطات بل يدعم جرائم أخرى.
وتختلف ماهية الفساد من بلد لآخر، حسب التنظيم القانوني وطبيعة الأعراف والتقاليد السائدة، أما على الصعيد الاقتصادي والتنموي، فالفساد يعتبر العدو اللدود للتنمية فهو يقوض الديموقراطية عن طريق شراء المصالح سواء بالضغط أو بالابتزاز أو بالرشوة، ويفرغ المجالس التمثيلية والتشريعية من رصيدها الشعبي ويشوه التمثيل فيها لتتحول إلى مكان لا دور له في عملية صنع القرار السياسي، كما ينجم عن الفساد التوزيع غير العادل للخدمات وكأن المواطنين درجات. وبمعنى شامل فالفساد السياسي يشوه القدرة المؤسساتية للحكومة لأنه يؤدي إلى إهمال إجراءاتها واستنزاف مصادرها فبسببه ـ أي الفساد ـ تباع المناصب الرسمية وتشترى، ويؤدي بطريقة مباشرة إلى تقويض الشرعية الحكومية وبالتالي القيم الديموقراطية للمجتمع كالثقة مثلا.
ومن ناحية أخرى فالفساد يسبب تقويض التنمية الاقتصادية لتسببه في حدوث تشوهات وحالات عجز ضخمة ويؤدي انتشاره في القطاع الخاص إلى زيادة كلفة العمل التجاري من خلال زيادة سعر المدفوعات غير المشروعة نفسها وكذلك لازدياد النفقات الإدارية الناجمة عن الرشاوى، ورغم أن البعض يدعي بأن الفساد يقلل من النفقات الإدارية عن طريق تجاوز الروتين الإداري إلا أن الرشوة يمكن كذلك أن يدفع المسؤولين لاستحداث تعليمات وحالات تأخير جديدة في إنجاز المعاملات، ومع إسهامه في زيادة تضخم النفقات التجارية فإن الفساد يشوه المجال التجاري، إذ يحمي الشركات ذات المعارف في الحكومة من المنافسة ما يعني بالنتيجة استمرار وجود شركات غير كفؤة.
وعلاوة على ذلك يولد الفساد تشوهات اقتصادية في القطاع العام عن طريق تحويل استثمار المال العام إلى مشروعات تكثر فيها الرشى ويلجأ المسؤولون إلى حيلة زيادة التعقيدات الفنية لمشاريع القطاع العام لإخفاء أو لتمهيد الطريق لهذه التعاملات غير المشروعة ما يؤدي بالنتيجة إلى زيادة تشويه استثمار المال العام. ويؤدي كذلك إلى خفض معدلات الالتزام بضوابط البناء والمحافظة على البيئة والضوابط الأخرى ما يؤدي إلى تردي نوعية الخدمات الحكومية وزيادة الضغوط على ميزانية الحكومة. ومن الناحية القانونية والاجتماعية، فالفساد يعتبر ظاهرة إجرامية عندما تتوافر مجموعة من العوامل المساعدة حالها في ذلك حال أي ظاهرة إجرامية أخرى، وعليه فإن لظاهرة الفساد خصائص خاصة بها من حيث التكييف القانوني ونوعية الجناة حيث تعد جرائم الفساد من الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة العامة والتكليف العام حسب الأصل حيث ترتكب جرائم الفساد من قبل أفراد وجماعات تشغل وظائف عامة أو تمارس تكليفا عاما إلا أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2003 قد أطلقت ذات الوصف على نفس النوع من الجرائم المرتكبة من قبل أفراد القطاع الخاص.
وقد اختلفت القوانين المقارنة في تحديد الأفعال والسلوكيات التي تعد جرائم فساد إلا أن هناك جرائم فساد لا يخلو منها قانون عقابي منها جريمة الرشوة وجريمة الاختلاس، وجريمة الرشوة هي الأخطر على المجتمع والاقتصاد والقيم الأخلاقية من بين جرائم الفساد كلها حيث انها لا تترك أثرا ماديا يمكن أن يقتفيه المحقق في الأغلب، وذلك كونها تتم خلف الأبواب الموصدة وخاصة جرائم الرشوة الضخمة، وتتجسد خطورة الرشوة في انها تدفع مقابل الحصول على تزكيات أو على معلومات عسكرية أو اقتصادية أو لتمرير صفقات فاسدة أو أنها تسبب في افساد القطاع الصحي أو التعليمي أو إيقاع ضرر في البيئة أو الأمن العسكري ما يهدد أمن وسلامة المجتمع ككل، وتعرف الرشوة بإنها متاجرة الموظف بأعمال وظيفته للقيام بعمل أو الامتناع عن عمل، ومن جهة أخرى يشجع الفساد على نشوء الجريمة المنظمة، فالدولة التي ينخر الفساد جسدها تشكل عامل جذب للمنظمات الإجرامية الدولية، التي تدخل البلد على شكل شركات مقاولات أو مؤسسات فنية أو جمعيات خيرية وتمارس في الخفاء أعمال غسيل الأموال أو تجارة المخدرات أو الاتجار بالبشر أو تجارة الأعضاء البشرية أو الدعارة.
كما تسهم الجريمة المنظمة في تعميق ظاهرة الفساد وتفشيها بما تضخه من أموال ضخمة كرشاوى للحصول على التراخيص والإعفاء الضريبي والمعلومات السرية وإخفاء الأدلة الإجرامية والتأثير على سير العدالة وللتخلص من الرقابة أو غلق التحقيقات التي تجري بشأنها أو مقابل السكوت عن أنشطتها غير المشروعة ولتصريف أي من أعمالها.
وفي المقابل تدعم مؤسسات الجريمة الموظفين الفاسدين للوصول إلى المناصب القيادية العليا سواء عن طريق الدعم في الانتخابات أو استخدام النفوذ لدى القيادات العليا والأحزاب السياسية في حالة التعيين. ولعل ضعف الرقابة والقوانين العتيقة يشجعان الفساد أكثر وأكثر، فما بالك إذا وصل الفساد إلى الجهة الرقابية ذاتها هنا يجوز أن نقول «على الدنيا السلام»، فمن سيراقب؟! من هنا تنهار السلطة وتفقد الثقة ويصير المواطن حبيس ظنونه وشكوكه. فهذا الوطن برماله وصحاريه وشطآنه، برياحه ونسماته، بغباره وإعصاره نحبه ونعشقه ويجب أن نعبر حاليا عما يتطلبه هذا الحب من ثمن دون كلل أو ملل، راسمين مستقبلا أجمل وأجدر، عاملين في كل حين على أن نكون جديرين بهذا الوطن على أمل أن يصير الوطن فخورا بنا، وأولى خطوات الإصلاح هي محاكمة المفسدين وتطهير أجهزة الدولة من الولاءات السياسية والطائفية حتى تصير خدمة الوطن أسمى من أي شيء آخر.
لذلك فالرؤية العامة تؤكد أنه ليس كل شيء على ما يرام في السياسة فلم يحدث في التاريخ أن سيست الحياة المدنية إلى الحد الذي وصلت إليه اليوم، قد يبدو أن المجتمع يجب أن يكون في حال أفضل اليوم، وأن تخدمه الحكومات والسلطة التشريعية بشكل أفضل من أي وقت مضي لكن النتائج غير موجودة بالطبع يمكن للناخبين غير الأنانيين أو السياسيين الانتحاريين تقديم حلول أقل مدعاة للكآبة لكن هؤلاء يبدون فصيلة نادرة جدا، وبسبب عدم إمكانية إجراء تغيير كلي للمشاعر فإن الحل المحتمل هو تغيير القواعد السياسية وحل الحكومة والمجلس وإصدار قوانين كشف الذمة المالية للموظفين الكبار في الدولة وقوانين محاربة الفساد والمصادقة الكلية على الاتفاقية الدولية المنظمة لذلك.
أضف تعليق