أقلامهم

لمى فريد العثمان تتساءل عن حقيقة الجهة التي خانت التنوير

من خان التنوير؟
لمى فريد العثمان
 
لتاريخ التنوير العربي عثرات وانسدادات تاريخية، ولمسيرة التنوير الغربي انحرافات وخيانة لفلسفتها، فلنبدأ الحكاية كما رواها لنا محمد أركون وهاشم صالح.
إن النزعة الإنسانية التي تشكلت في القرن الثامن عشر والتي أخرجت أوروبا من ظلمات القرون الوسطى إلى عصر الأنوار، لم تكن وليدة لحظتها إنما وجدت في المجتمعات الاسلامية قبل أوروبا بأكثر من سبعمئة سنة، حيث تجسدت تلك النزعة الإنسانية في القرن الثامن إلى الثالث عشر الميلادي، وهي المرحلة التي يسميها أركون بـ”المرحلة الكلاسيكية المبدعة” من خلال مؤلفات فلاسفة وأدباء كالجاحظ والتوحيدي والمعري والفارابي وابن سينا وابن رشد وغيرهم… إلا أنها ماتت بموت ابن رشد، لتبعث من جديد في القرن التاسع عشر في مصر على يد رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم من المتنورين، بسبب الابتعاث إلى أوروبا والاحتكاك بحضارتها… ولتحتضر تلك النزعة الإنسانية مرة أخرى بوصول جمال عبدالناصر في 1952، ومن ثم تخر صريعة سيطرة الحركات الأصولية الأيديولوجية (ومفاهيم الحاكمية وولاية الفقيه) بعد فشل الثورة القومية العربية، ليحنط الوعي الإسلامي تراثه ويحيي مكانه “الجهل المؤسس” (كما يصف أركون)، ولنلج عصر الانحطاط الطويل من أوسع أبوابه، حتى لحظة انفجار الربيع العربي التي لن تظهر نتائجها الا بعد زمن، لاسيما أن العرب والمسلمين يعانون كما يصف أركون “قطيعتين كبيرتين”.
فالقطيعة الأولى كانت عن أهم ما أنتجه التراث الاسلامي، أما الثانية، فكانت عن أفضل ما أنتجته فلسفة التنوير في الغرب، إلا أن هذا الغرب ليس شيئاً واحداً، ومن الخطأ، كما يعبر هاشم صالح، أن نعتبر “الغرب كتلة واحدة صماء بكماء”، فهناك صراع وجدل واسع بين التنويريين الجدد والقوى اليمينية، فالتنويريون الجدد يثيرون بشكل واسع انحراف التنوير عن مساره بل ويذهب جان كلود غيبو إلى أبعد من ذلك في وصفه للانحرافات بـ”الخيانة” لقيم التنوير التي أتى بها مونتسكيو وروسو وكانط وغيرهم ممن أسسوا للنزعة الإنسانية التي انتصرت على النزعات الطائفية والمذهبية والعشائرية وأنتجت مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية ودولة القانون والحريات.
إلا أن التنويريين الجدد في أوروبا يراجعون تاريخهم ويحاكمون من خان التنوير وانحرف عنه بدءا من العصور الكولونيالية والنازية والفاشية، إلى دعم الحكومات الغربية للحكم المطلق والدكتاتوريات العربية، إلى العولمة الرأسمالية الاستغلالية التي وسعت الهوة بين العالم الغني والعالم الفقير الذي يموت فيه عشرات الملايين من الجوع سنويا.
تتجسد تلك النكسة والنكبة لقيم التنوير في التحيز للأصولية الصهيونية التي تأسست على فكرة التمييز والنقاء العرقي، وهي في رأيي امتداد لعصور الفاشية والنازية. وبالرغم من تغير مواقف معظم دول العالم إزاء الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني، إلا أن استنكار الولايات المتحدة لسعي فلسطين اليوم إلى الانضمام إلى الأمم المتحدة والتهديد باستخدام حق الفيتو هو وصمة عار في جبين من يرفع قيم الحداثة والحقوق الإنسانية.
لم يسكت التنويريون عن هذا العار ولطالما قاوموا ونددوا وخرجوا في مظاهرات احتجاجية حاشدة ضد هذه النزعات “المضادة للإنسانية” في مختلف القضايا، وطالبوا بالعودة إلى روح فلسفة التنوير، إلا أن أكبر خيبة كما يقول هاشم صالح أنك “تجد نفسك محاصراً”، فأصولية الشرق من أمامك وأصولية الغرب من خلفك… وصدق الفيلسوف الألماني هابرماس.