سبر القوافي

مظفر النواب ‏(عائد من المنفى)‏ ..!!

 (رغم جواز سفر مريم ورسالة مكتب خدمة الهجرة من سفارة الولايات المتحدة التي تعلمني أن اسمي قد سحب بالقرعة، كان قلبي يخفق كأنهم سوف يرمونني خارجاً، فكرت حينذاك أنه ما من مكان لي في العالم، و أنني أينما ذهبت سيقولون لي أنني لست في وطني، و يجدر بي التفكير بالرحيل لرؤية مكان آخر).. تلك القطعة  لـ جان ماري لوكليزيو من رواية السمكة الذهبية.. فقد يستمر البحث عن وطن شهور وربما سنين كأنه مجرد قطعة أرض تحيي الجسد.. وعند الحصول عليه تبدأ أحاسيس الغربة بالظهور والوفاء المتأصل والشوق للموطن الأصلي.. ذلك لم يكن خيالاً كتب في روايات فقط.. بل عاشه الكثير الكثير.. ومنهم عظماء.. عظماء بحزنهم وصبرهم رغم احتراقهم بشوقهم.. يرحلون بعيداً عن موطنهم إلى أن يصبحوا نجم لامع في سمائه ويختفون..!
 “مطر.. كلش مطر والشارع مغوش
حكي وريحة ناس مالك شغل بيهم
عينك مراية وقت مابيها أحد
كنها ورقه يانصيب انتهت
وتدور الجرايد بلكي ريحة وطن”
مظفر النواب… هو أحد تلك النجوم التي باتت تلمع في سماء العراق لمدة خمسين عاماً، فأصبح كأنه حلم لمياه دجلة.. تناديه العراق مثل طفل يناجي أمه الميتة، كأنه ذهب من دون رجعة.. ذهب وهو تارك أجزاء كثيرة منه في بلاده.. تارك لها وبقي يلمع بعيداَ وليس وحيداً.. ساخطاً ناقماً مبدعاً.. ساخطاً على الظلم الذي تجرأ بانتزاع رائحة العراق من رئتيه غصباً وكرهاً.. ذلك الشاعر العظيم رغم قساوة تأنيبه لهم إلا أنه لم يعد يحتمل.. خمسون عاماً فصلته عن وطنه كفيلة بأن تجعل عاصفة مثله تهدها الحروف؛ لتتزاحم بحلقه عند ذكر العراق أمامه.. أجرت قناة العراقية معه لقاء في منزله بالشارقة؛ لينفي خبر وفاته الذي قال عنه بدوره إنها حملة لتشويه صورته، حيث قالوا على لسانه قصيدة (كهرمانة) التي وصفها النواب بأنها (لا ترتقي حتى للنثر السيئ)، ويزعمون أنه قالها على فراش الموت.. وينفي خبر آخر انتشر شائعاً؛ بأنه أخذ أحد الجنسيات من إحدى الدول ومُنح بيت وراتب وتخلى عن كل شيء، فأجاب مظفر مستنكر: (هذا كله لم يحصل، ولا أنا أقبل بعد تاريخي السياسي في تاريخ الشعب العراقي).. مظفر الحزين الغاضب بكى واختنق بعبرته وخنقنا بشوقه لبلاده عندما سألوه: بك حنين؟ قال: ( أنا صارلي خمسون سنة أحن للعراق ) .. خنقته العبرات والحزن الكهل.. قال عندما سألوه ستزورها: ( إن شاء الله.. أيه الحنين صعب) ثم سكت كأنه يتساءل لحظتها هل فعلا تفصلني أيام عن ملاقاتها أم أنه خلال هذه الأيام ستتحقق شائعاتهم وأموت هذه المرة فعلا؟ و أفارق عراقي للأبد ؟!..  حلمه بالعودة يلازمه طيلة فراقه.. لكن خوفه الحقيقي من العودة ألا يلاقي أحبة يستقبلونه .. مظفر يخشى أنه لا يملك أحبة في العراق ..! وهو الذي قال بها مستقبلاً قناة العراقية:

” يا نخل أهلي بالعراق
أشم رائحة العراق على الغبارِ
جسدي خفيٌ بالعراق
برغم ما قد مات من جسدي على كل الموانئ والبحارِ
وطني
إذا الملاح لم يهلك على صدر السفين ، تحدياً للموجِ والميناء
لا تقم الصواري”
ذلك مظفر .. نصفه أخذه المنفى ونصفه الآخر الحزن والمرض .. وأهدوه أخيراً لوطنه الذي ضل طيلة تلك السنين يناجي الأرض لتهديه وطن … أهدته وطن ولكن أهدته بيته .. وذكرياته وأشيائه ونخيل أهله ونهره .. قال مظفر :
” أسمع طفلا يغثوا في المهد 
وأسمعه يغثوا .. 
يا رب يشب له وطنا 
فأنا عشت بلا وطن 
فأنا عشت بلا وطن 
وأنا أعرف كيف يعيش الزرع السائب في الماء 
ويشتاق إلى أي تراب”
 نعم يبكيني مظفر عندما يقول:
“ما بكيتك .. ما بكيتك
انا بكتني السفينه !
منين ما طش الرذاذ .. تريد تبحر
تدري نوبات السفن لو ضاق خاطرها بجبن 
ما  بكيتك مابكيتك
وأنا جايبلك بحر
فقبطانها
تسورب وحدها
ويثلج قلبي عندما يوبخهم.. يحرقهم:

” ما أجمل هذا المنظر 
إسرائيل ترش وأنت تراقبني مبسوط ….؟ 
مبسوط لا شك 
وأنا واللّه كذلك جدا 
شكرا .. ولدي رجاء 
اكتب ما شئت لمن شئت بما شئت 
ووجهك للحائط أرجوك 
تشكيلة وجهك تزعجني 
عفوا لا أقصد جرحك في شيء 
هل ظل هنالك ما يجرح فيك 
ولكن خطأ في خطأ تشكيلة وجهك 
يا رب لماذا الأخطاء 
أنت مصر يا سيد تزعجني 
هل آذيتك في شيء 
أنزلت مرتبك الشهري 
سبقتك في طابور الخبز 
إن كنت بهذا التقرير توفر خبز عيالك 
سيشبون حراما 
أو كنت تريد شراء حذاء
أنت وتقريرك والراتب يا دوب حذاء ..!!! “

ويعصفني عندما تكذبه نفسه لتعلن أنه المحب الأوفى : 

 “متت وهمومي وسكتي 
غلطتك 
يالكنت كلشي
ما اكذبك
انا ناسيك وبكيت 
شلون ما اسكت بنفسي
تلتفت للماضي تبكي
تحط على الحايط حلمنا
هي مدري حايط الأيام يبكي
وانا صافن وانا صافن
مثل المحجر على الريح ارتجيت
لا متت انت 
ولا انا احتييت
لكن الأيام ماتت 
غلطتك يالكنت كلشي
وما دريت 
غلطتك صلحها بعدك
انتة كلشي”
ووطأت قدماه العراق رغم حفاوة الترحيب وحرارة قبلات محبيه.. رغم ازدحامهم لمعانقته، إلا أن الوطن لم يعد هو.. فقد فارق العراق ظلماً ليواجه موتاً وظلماً آخر.. اختلطت رائحته برائحة غرباء.. وحوش.. ودماء و انفجارات بغداد كل يوم.
 مشاعل الفيصل @Negative87