قصة الضابط
جاسم بودي
قضية القيادي في وزارة الداخلية، ورغم كل ما صاحبها من ضجة واتهامات بالفساد تحسب للكويت ولا تحسب عليها. هي نقطة لمصلحة الديموقراطية وليست نقطة ضدها، وهي دليل جديد على أن الحريات تطور النظام السياسي ولا تسيء إليه خصوصا إذا استخدمت في الوجهة المسؤولة.
هناك ضابط رتبته رفيعة المستوى بعضهم رأى أنه ارتكب جريمة وبعضهم رأى أنه ارتكب خطيئة وبعضهم اعتبره بريئا. لا نريد أن نذهب بعيدا فنغوص في كل التفاصيل المتداولة قبل ان يقول القضاء كلمته بل سنقف عند حدود روايته هو نفسه لـ «الراي» بقوله إن مشادة حصلت بينه وبين فتاة صديقة أدت إلى ما أدت إليه من مطاردات وضرب وكسور، وهذا في حد ذاته اعتراف بخطأ كبير وكافٍ للإساءة إلى رتبته وما يمثله على أساس أن كبار الضباط يجب أن يكونوا قدوة في النظام والمسلكية.
وهناك فتاة تقول إنها تعرضت لاعتداء من الضابط وإن محاولات جرت لإجبارها على التنازل عن القضية وإن قيادات كبيرة توسطت لثنيها عن المضي في شكواها، إنما ولأنها في الكويت، طرقت باب الإعلام فانفتح وقالت كل ما تريد، لتنتقل قصتها من أروقة المخافر والمحاضر إلى الرأي العام.
وهناك نواب تحركوا رافعين الصوت محذّرين وزير الداخلية من أي محاولة للفلفة الموضوع دون أن ينسوا بالطبع تمرير ما يريدون من رسائل سياسية عبر هذه القضية.
وهناك وزير داخلية قال إنه سيتابع ويلاحق ويبحث ويدقق فينصف أو يعاقب. ومن الطبيعي في كل دول العالم، ان يضيق صدر المسؤول بالضجة الإعلامية التي تصاحب أي قضية لانها تضع إجراءاته تحت ضغط الرأي العام وتحرمه من بعض الهدوء والروية، لكن الوزير أكد أن «لا أحد فوق القانون مهما كانت رتبته وأن كافة منتسبي وزارة الداخلية باعتبارهم المعنيين باحترام القانون وتنفيذه والالتزام به فهم أول من سيطبق عليهم اجراءات القانون».
نعود إلى الصورة من بدايتها. ضابط كبير متهم بقضية اعتداء استطاع أن يتحدث مع صحيفة باسمه وصفته الواضحتين قائلا إن التهم المنسوبة اليه غير صحيحة. فتاة تتهم الضابط بالاعتداء تتحدث مع الصحيفة شارحة تفاصيل القضية. إجراءات قانونية وقضائية وأخرى لائحية تتعلق بوزارة الداخلية تأخذ طريقها إلى التنفيذ. نواب يحذرون… ورأي عام يراقب ويحلل ويتفاعل.
لو لم تكن الحريات الشخصية موجودة لما تمكن طرفا القضية من شرح موقفهما بدل الاستسلام للإشاعات التي تكبر وتتعاظم مع كل كلمة «send» عبر الأجهزة الإلكترونية.
ولو لم تكن الحريات العامة مكفولة لما تجرأت مواطنة على التوجه إلى المخفر لأخذ حقها من أحد كبار ضباط الداخلية، ولكم أن تتخيلوا الموقف في دولة أخرى حيث يمكن أن يكون اليوم الذي تقرر فيه فتاة الشكوى في قضية كهذه هو اليوم الأخير في حياتها.
ولو لم تكن الحريات الإعلامية منتشرة في الكويت (ودائما في إطار المسؤولية كي لا نكون معبرا للفوضى) لما أصبحت القضية قضية رأي عام أوجبت كل هذا الاستنفار السياسي والإداري ودفعت إلى التفكير في اتخاذ قرارات وتفعيل أخرى صيانة للمؤسسة الأمنية التي نجلّها ونحترمها.
ولو لم تكن الحريات السياسية جزءا من دستور الكويت لما تمكن النواب المنتخبون من ممارسة الضغوط كي لا يتم التساهل مع القضية.
تبقى نقطة مهمة، وهي أن الإصلاح الغاية الدائمة للحريات والديموقراطية، ونعتقد أن الكشف الإعلامي والضغط السياسي ودور الرأي العام كلها عوامل تشكل سيفا في يد وزير الداخلية أو أي مسؤول آخر وليست سيفا ضده، ولذلك فإن أي انحراف عن غاية الإصلاح في اتجاه تصفية حسابات خاصة من قبل البعض يسيء إلى الإصلاح نفسه ويحرف القضية عن مسارها الصحيح، وكذلك الامر بالنسبة إلى بعض من هم خارج الوسط النيابي الذين وجدوا في القصة صيدا ثمينا يمكنهم من عرض عضلاتهم وأحقادهم وتكثيف ظهورهم وادعاء البطولة أملا في دور سياسي مقبل… فهؤلاء لا يخدمون التطوير والتغيير وإنما يخدمون أنفسهم.
القضية قضية إصلاح بامتياز. ليست قضية سياسية ولا قضية انتخابية ولا قضية حسابات شخصية. خيط رفيع يربط بين العدالة وبين الستر، وبين معالجة الفساد وبين التشهير. وخيط سميك يربط بين أكل العنب وبين قتل الناطور… والمطلوب هو تحقق العدالة ومعالجة الفساد وأكل العنب.
أضف تعليق