يبرز في هذه الأيام تجديد فكر بعدما تعفر رأسه في التراب، وأرغم على الانسحاب من ساحة العمل الإسلامي بعد الضربات المتتالية عليه كالمطارق، وبعد الثورات العربية المباركة التي كانت الضربة القاتلة له!
هذا الفكر يتمحور حول طاعة ولاة الأمر والانصياع لهم، وإن جلد ظهرك وأكل مالك، فكانوا حروريين مع إخوانهم،مرجئة مع الظالمين والفاسقين والكافرين، وما ذلك إلا بأنهم شذوا عن إجماع الأمة، وماعابوه على ابن حزم وأبي داوود الظاهري تمثلوه تماماً فانتصبوا يحرفون الكلم من بعد مواضعه، ويطعنون بسلف الأمة وخلفها ويحرفون ظواهر النصوص بما يتوافق مع تثبيت سلطة الطواغيت والظالمين!
من ذلك ماظهر علينا من هؤلاء شيخ سلفي يتكمكم بعباءة الدين ويتلفع بدثار الماضي، ويلتحف بلحاف الدين والعقيدة والتوحيد، وهو أبعد و أظلم من ذلك كله، هذا الانسان ظهر بفتاوى غريبة عجيبة، منها مثلاً: تحريم غيبة الجنود الأمريكان بحجة أنهم معاهدون!، ثم الطعن ببعض الصحابة أمثال الحسين وابن الزبير رضي الله عنهما، واتهامهما يأنهما وغيرهما بغاة من أمثال النفس الزكية وغيره من الذين خرجوا على الحاكم في زمانهم، وتلك غريبة لا تغتفر وجريمة نكراء لا يصفح لقائلها ولا يُعتذر!
فكيف يحرم غيبة الكافر الأصلي ويحل غيبة خير الناس و أتقاهم وأنقاهم سريرة وهم الصحابة الكرام وآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم!
وهنا قضية ينبغي الالتفات إليها وهي قضية مهمة جدا، ولكن هذا الفكر المعوج والدخيل على الأمة لا ينظر إليها ولا يعتبرها في الميزان، وهي قضية المصالح والمفاسد، ومقاصد الشريعة، وسنتناول المسألة، من جانبيها المصلحي في عرضها، ولمصلحة العظمى في تحقيق العدل في الحكم وعدم مصادرة حق الأمة!
من هذه القضايا التي كان النظر فيها النظرة المصلحية ما كان في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه،( قال ابن عباس : كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجّها، إذ رجع إليّ عبد الرحمن فقال : لو رأيتَ رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا ! فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فَـلْتَة ، فتمّت، فغضب عمر ثم قال إني إن شاء الله لقائم العشيّة في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم . قال عبد الرحمن : فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس ، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيّرها عنك كل مُطيّر ، وأن لا يَعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكّنا ، فيَعِي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها ، فقال عمر : والله إن شاء الله لأقومنّ بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة ….) إلى آخر هذه القصة العظيمة.
فهنا فقه عظيم مثل أن ليس كل مايعلم يقال، بل لابد من مراعاة الأحوال والناس، و معرفة أين ومتى يقال هذا وما لا يقال هذا! ومنها تحريم مصادرة حق الأمة، وهو نص ثمين من خليفة راشد يرفض هذه المصادرة وعدم الأخذ بآراء الناس كما فعلت الملوك بعد خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهم.
ذكرنا ما كان من أمر الخليفة ابن الخطاب وموقفه من قضية المصلحة والنظر المصلحي، والآن نأتي على ما قال من ذكرنا من مشايخ ما عرف بولاة الأمر، ونقول أنه بالنسبة للغيبة التي ذكرها الشيخ، يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير الحجرات(روى عن الحسن: ثلاثة ليست لهم حرمة صاحب هوى و الفاسق المعلن و الإمام الجائر)،وليس لأهل البدع غيبة) ثم قال(وعلماء الأمة على ذلك مجمعة) التفسير 16/323.
أما قوله أن الحسين وابن الزبير وغيرهما من البغاة سبحانك فهذا بهتان كبير،قال صاحب التحرير و التنوير(البغي :الظلم والاعتداء على حق الغير، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي …فالتي تبغى :هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل ) 26/200وقد بحث المسألة بحثا جيدا.
وقال القرطبي (إذا خرجت على الإمام العدل خارجة باغية ولا حجة لها، قاتلهم الامام بالمسلمين كافة أو بمن فيه الكفاية، ويدعوهم قبل ذلك إلى الطاعة والدخول في الجماعة، فإن أبو ا من الرجوع والصلح قوتلوا. ولا يقتل أسيرهم ولا يتبع مدبرهم ولا يذفف (يجهز)على جريحهم، ولا تسبى ذراريهم ولا أموالهم. وإذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل وهو وليه لم يتوارثا)16/304.
ونقول هل الحسين وابن الزبير لا حجة لهما في الخروج حتى يكونا باغيين؟
كيف تولى يزيد وملوك الدولة الأموية؟ هل عن طريق الشورى والانتخاب؟ أم رغما عن أنوف الجميع؟ثم كيف كان تعامل الجيش مع الحسين و أهل بيته؟ هل هكذا يفعل بالجماعة الباغية،على افتراض صحة ماذهبت إليه؟
البغاة يكونون عندما يتولى إمام عادل اختارته الأمة طواعية كعمر وعلي وعثمان من الراشدين وعمر بن عبدالعزيز، أما من عداهم فقد تسلطوا على رقاب المسلمين دون رضاهم، فهؤلاء الأفذاذ خرجوا عليهم حتى يصححوا المسيرة، وليس الخطأ في الخروج، بقدر ما كان في قضية الاعداد والتمكين و التجهيز والتخطيط الدقيق.
و أنا على علم ما الذي يقض مضجع هذا الشيخ وجماعته، إنه الحفاظ على عروش الحكام اليوم، و إلا قضية الخروج على الحاكم الظالم فضلا عن الكافر واضحة لا لبس فيها ولاغموض، قال ابن حجر رحمه الله (و قولهم : كان يرى السيف يعني : كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور ، و هذا مذهب للسلف قديم ، لكن استقر الأمر على ترك ذلك ، لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقة الحرة، و وقعة ابن الأشعث، و غيرهما عظة لمن تدبر”) في التهذيب 2/263،و لا أظن الحسين وابن الزبير إلا أنهما من السلف!
فالخروج من الحسين رضي الله عنه، إنما كان خروجا لتصحيح الوضع، و عودة الأمر شورى بين المسلمين، والواضح أن أحدا لم يلمه على الخروج أو أتاه بنص صريح صحيح على أن خروجه بغي والصحابة يومئذ متوافرون حاضرون، ولكن منعهم كان لخوفهم عليه، ولعلمهم بخيانة أهل الكوفة الذين نافقوا وكذبوا،وكذلك ابن الزبير، واستطاع أن يتولى الحكم، ولكن حالت الظروف دون ذلك، ومن يعلم تتبع الصحابة وخاصة ابن الزبير وتربية الحسين في تتبعهم لحديث وهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يدرك هشاشة هذه الدعاوى، وأن الغرض منها تثبيت حكم الطاغوت لا تثبيت حكم الله تعالى!
وختاما، نقول إن هذا الفكر يريد أن يعيد للمرجئة مكانتها، ويريد أن يحمي الظالمين، وقد رأينا العجب العجاب من هؤلاء و وقوفهم مع الظالمين ضد إخوان لهم، ولكن الله تعالى سيدحر هذا الفكر الآثم، وهذا التردي في المستنقع الآسن، وما الثورات إلا بداية قطرة في طوفان القضاء على هذا الفكر المريض!
أضف تعليق