سوالف من ديوان المعارضة
عبدالله بشارة
نتفق بأن أحداث الكويت في الأسبوعين الماضيين لها مؤشرات مستقبلية على الوضع السياسي والاجتماعي، حيث ستختفي بعض المفاهيم المتعارف عليها ان لم يكن كلها والسبب يعود الى قرار سمو الأمير في اتخاذ خطوتين تاريخيتين، أولهما، قبول استقالة سمو رئيس الوزراء، إدراكا من سمو الأمير بأن الوضع المتأزم بحاجة إلى قرار غير مسبوق، وأن تصاعد التوتر قد يؤدي الى مصادمات، وأن الاحتكاك السياسي قد يدفع نحو العنف الاجتماعي بما يفجر قواعد الاستقرار في البلد، ومع قبول استقالة رئيس الوزراء، جاء قرار حل المجلس في خطوة حكيمة أخرى، لأن بقاء المجلس بات مستحيلا في مناخ التخندق وفي سياسة الكمين والتربص بين القوى التي تتسيد مجلس الأمة، بعد ان اتسعت الفجوة بين نواب متهمين وآخرين يحملون أجندات شعبوية تساعدهم في تأكيد مواقفهم السياسية، وبعد ان فقد المجلس شرعيته الأخلاقية وتلطخت سمعته بأوحال الرشاوى.
ولا شك بأن قرارات سمو الأمير التي وفرت الحماية للسلم الاجتماعي، جاءت في منحى استثمرته المعارضة المتآلفة لصالحها، فبرزت كقوة عازمة على تنظيف المناخ البرلماني من الشبهات التي أحاطت به وتبنت أسلوب التحاور مع الرأي العام ومع المنظمات المدنية ومع التجمعات القبلية والأكثر مع تيار الشباب الساخط على تفشي الرشوة والغاضب من استغلال العضوية البرلمانية لمصالح شخصية في التكسب وفي توسيع دائرة النفوذ.
وهنا لابد من إبداء بعض الملاحظات حول دور المعارضة المستقبلي:
أولا – تحتاج حياة الكويت البرلمانية الى معارضة وطنية تمارس عملها في اطار الدستور ووفق مبادئه وقواعده، وأن تظل في الحضن الوطني الكويتي، تتفاعل مع مصالح الوطن بمنأى عن اعتبارات خارجية أو ترابطات مع هيئات ومنظمات خارج حدود الوطن وأن تستوحي برامجها من هموم المواطن وحده، واعية للحقائق التي يتألف منها مجتمع الكويت، الذي ليس بحاجة الى أيديولوجيات مستوردة ولا يطيق الثرثرة الفلسفية ولا يشتهي المفردات الغليظة في التعبير، ويصر على ان تكون هموم الأعضاء هي هواجس المواطن، وأبرزها، تطبيق القانون بكل قوة وبشدة، على قاعدة المساواة، والتصدي للفساد وللمرتشين، وفضح أبطاله والتشهير بمؤسسيه وملاحقة قواعده، فكل الثورات قديمها وجديدها أفرزتها جرثومة الفساد الوقح.
ثانيا – لابد من التكيف مع طبيعة الممارسات الديموقراطية في الحياة البرلمانية في تطورها نحو تقبل الرأي المعارض وفي الايمان بأن حوارات الديموقراطية هي اجتهادات في البحث عن الصالح وأنها مفيدة لقوى المجتمع في التنوير السياسي وتأهيل المواطن للثقافة البرلمانية التي تقوم على تفاعل الآراء وتباين المواقف مع السعي لكسب ثقة المواطن، واعتبار الاختلاف في الرأي ووجهات النظر بمثابة تمتين وتقوية للأساس التي تقوم عليها التجربة الديموقراطية، وعلى المعارضة في ممارستها لعملها ان تتصرف بأن النظام السياسي التاريخي والعميق الجذور، والواقع البرلماني الحديث، هما ضمان مؤكد لسلامة الكويت، وهما العنصر المؤثر لحمايتها وتأكيد حريتها واستقلالها، وأن المعارضة التي تخرج عن هذا الاطار التاريخي ستتعرض للتآكل وتتلاشى.
ثالثا – أخطر مسؤوليات المعارضة هي التصرف بحكمة مع العصبيات والممارسات المتطرفة في طائفيتها وقبليتها وفئويتها.
جاء البرلمان السابق كأسوأ سجل في الحدة القبلية وفي التمترس الطائفي، الأمر الذي فتح مسارات للعنف اللفظي، في سوقية المفردات وفي الاستفزازات التهكمية، وعلى المعارضة ان تتعلم بأن سيف القانون هو العلاج المؤثر لهذا المرض الخبيث، واحترام الكفاءة وحقها في التسيد، ودفن المحسوبيات، والانتصار للمساواة، فالذين يشعرون بالظلم سيبحثون عن مناصرين بين أهلهم، ومن تهينه الحياة يثأر لنفسه في الاستنجاد بطائفته، ومن يشعر بالتجاهل لمؤهلاته، سيدفعه الاستفزاز الى بطن قبيلته.
رابعا – إذا أرادت المعارضة الحالية نصرة أبناء الكويت بلا تفرقة، فعليها في سلوكياتها ترسيخ مفاهيم المواطنة في تعبئة الولاء للكويت فوق طائفتها وقبائلها وفوق تجمعاتها، وأن أمن البلد وحريته ووحدة أبنائه هو الضامن للبقاء، وأن السبيل للوصول الى هذا الهدف هو مثالية السلوك للأعضاء في احترامهم لمقام العضوية والتزامهم بآداب المهمة التي عليهم، وتثمينهم للثقة التي أعطيت لهم من قبل الناخبين، وأن تظل سمعة الأعضاء سلمية من تلوث الاسترضائيات، وأن ينفضوا عنهم تهم المليونيات، هذه مهمة المعارضة في فضح المشبوهين وفي ملاحقة أصحاب الذمم الخاربة.
كنت في لندن في الصيف الماضي عندما انفجرت فضائح نواب البرلمان البريطاني في فسادهم في تزوير ايصالات الايجار وفي العبث في فواتير الاقامات في الفنادق والبدلات، وثار الرأي العام واسقط النواب المرتشين والمزورين، وعندما جاءت الحكومة الجديدة أصدرت قرارات بأن تتم اجراءات الصرف وفق عقود واضحة فوق الشبهات.
وعلى المعارضة الكويتية التي كسبت الكثير من سخط الرشاوات ان تدفع نحو خطوات تغلق مجالات الثراء البرلماني السريع، وأن تتخذ خطوات قوية شبيهة بالنهج البريطاني.
وأن تتحرك أيضا لانهاء واقع نواب الخدمات الذين يتسكعون في الوزارات لممارسة ضغوط لافادة ناخبيهم على حساب القانون، وهذه من المآخذ المهينة للحياة البرلمانية.
خامسا – نأمل ان تتصرف المعارضة بوعي تام لأبعاد الترابط الكويتي – الخليجي، وأن تثمن الشراكة الاستراتيجية الحياتية والمصيرية مع دول مجلس التعاون كأبرز مقومات المناعة والاستمرار، بعيدا عن التعليقات السخيفة وعن الملاحظات المضحكة حول الحقائق الوطنية لهذه الدول.
عشت لسنوات طويلة في المملكة العربية السعودية، والتي ترسم الكويت كجزء لا يتجزأ من أمنها، وتعاملت مع مسؤوليها العارفين بمعاني الشراكة المصيرية والمستعدين لأعبائها، ولم تأت نصائح سمو الأمير للنواب من أجل احترام خصوصيات الآخرين من فراغ..
وإذا كانت شراكة مجلس التعاون هي وحدة المصير، فلابد أيضا أن تتحسس المعارضة لأهمية العلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء التي شيدت الجدار الرادع لحماية الكويت من مغامرات الجوار، وأن تدرك المعارضة بأن هذه العلاقات هي الحضن الأمني الثابت والمريح، فلا حاجة الى الدوس البرلماني على الحزمة الأمنية الكويتية..
سادسا – نتوقع أن ترسم المعارضة برنامجها في دعم خطة التنمية وبرامج العمل الحكومية، وأن تتحرك المعارضة كقاطرة تسحب وتدفع المسعى الحكومي نحو التنفيذ، ولا يغيب عن بال الأعضاء بأن اللوم في تقهقر الكويت وفي استمرار الجمود يوجه الى مجلس الأمة في التعطيل الدائم لتوجهات الحكومة وانحدار اهتمامات المجلس الى قضايا جانبية وسط تجاذبات بهلوانية فجة، وعلى المعارضة ان تؤنب المتسبب في التعطيل وتتحرك لمعالجة البطء والاخفاق.
لم يسبق في تاريخ الكويت البرلماني أن تأتي الأحداث وفق مزاج المعارضة وفي خدمة أهدافها كما نراها الآن، ويعود ذلك لسببين بارزين، حكمة سمو الأمير في درء المخاطر، والسخط الشعبي ورفضه للنهج السابق مع الإصرار على حقوق الشفافية والوضوح في المساواة عند تطبيق القانون.
أضف تعليق