أقلامهم

عن محاكمة البدون والنظرة لهم يكتب أحمد الديين

أحمد الديين
محاكمة البدون 
محاكمة العشرات من شباب فئة “البدون”، التي بدأت أولى جلساتها أمس؛ وذلك على خلفية اتهامهم بالمشاركة في التحركات المطالبة بحلّ قضيتهم، يفترض أن تتحوّل إلى محاكمة سياسية وإعلامية لهذه القضية بكل أبعادها الإنسانية والاجتماعية والقانونية والتاريخية… وأن تكون محاكمة للمسؤولين المتسببين في استمرار هذه القضية معلقة من دون حلّ طوال سنوات بل لعقود عديدةّ، وجعلها تكبر وتتفاقم إلى أن وصلت إلى الجيل الرابع من “البدون” من دون أن يكون هناك أمامهم أفق جدّيّ لحلّ جذري يقوم على أسس إنسانية عادلة بحيث يطوي صفحة قضيتهم وينهي حرمانهم من أبسط حقوقهم المدنية.
ويجب أن يكون واضحا أنّ قضية “البدون” لم تنشأ من فراغ؛ وهي ليست نبتة شيطانية برزت هكذا فجأة من دون مقدمات، بل هي مشكلة لها تاريخها ولها جذورها وأسبابها، وهي ناتجة عن مجموعة من الظروف الموضوعية؛ وبعض الملابسات والثغرات القانونية؛ والأهم هي نتاج عدد من القرارات الحكومية الخاطئة في التعامل مع هذه القضية منذ بداية تشكّلها في ستينيات القرن العشرين… فمن المعلوم أنّ الهجرات الجماعية إلى الكويت ليست أمرا مستحدثا، بل لقد ارتبط تاريخ الكويت وتشكّل المجتمع الكويتي عبر الهجرات المتلاحقة، كما أنّ جَوَلان أبناء القبائل في مختلف أنحاء الجزيرة العربية وبادية العراق والشام والأردن وعبور الحدود والاستقرار فترة في هذا المكان ثم الانتقال منه كان أمرا معتادا قبل تشكيل الدول الحديثة في المنطقة، ولهذا نجد أنّ القانون رقم 17/59 الخاص بإقامة الأجانب في الكويت قد استثنى في مادته التاسعة والعشرين الفقرة “ب” “أفراد العشائر الذين يدخلون البلاد برا من الشروط المقررة للإقامة وهي استخدام جوازات السفر؛ والدخول عبر المنافذ الرسمية؛ والحصول على تراخيص بالإقامة.
وكان من الطبيعي أن ينجم عن مثل ذلك الوضع القانوني الخاص استمرار إقامة بعض أفراد هذه العشائر واستقرارهم في الكويت، وارتبط ذلك بتوفر فرص عمل وظروف جاذبة للهجرة والإقامة، خصوصا بعدما تمّ فتح أبواب التطوّع في الجيش والشرطة على مصاريعها أمام أبناء البادية في أعقاب أزمة عبدالكريم قاسم ومطالبته بضم الكويت إلى العراق في العام 1961… ورافق ذلك الوضع أنّ الحكومة كانت تتعمّد دمج أجداد البدون الحاليين وآبائهم مع المواطنين الكويتيين في إحصاءات السكان لتحقيق رفع مصطنع في نسبة عدد الكويتيين إلى إجمالي عدد السكان، وهو الأمر، الذي استمر قائما إلى أواسط الثمانينيات، ولم يتوقف إلا في أعقاب سؤال نيابي شهير وجّهه النائب أحمد عبدالعزيز السعدون!
وفي السياق ذاته فقد كان هناك تعامل ذو طبيعة خاصة يحظى به أفراد هذه الفئة يميّزهم عن الوافدين وذلك في مجالات الإقامة؛ والعمل؛ والالتحاق بالمدارس… ولعلّ تعدد التسميات، التي كانت تطلقها الأجهزة الرسمية عليهم قبل أن تستقر على التسمية الحالية يفسر لنا طبيعة هذا التعامل الخاص مع “البدون”، حيث كانت التسمية السائدة في بداية الستينيات هي “أبناء بادية الكويت”، ثم أصبحت “البدون” في السبعينات حتى أواسط الثمانينيات، قبل أن تغيّر الحكومة تسميتهم إلى “غير كويتيين” ولتضيف بعد هذا وقبيل الغزو تعديلا آخر عرّفتهم فيه بأنّهم “غير محددي الجنسية”، ولم تكتف بذلك بل لقد صاروا فترة ما بعد الغزو يوصفون بأنهم “مجهولو الهوية”، قبل أن تبتدع الحكومة لهم تسميتها الحالية… ويضاف إلى ذلك ما أطلقه كبار المسؤولين الحكوميين من تصريحات متعددة حملت وعودا مطمئنة عن قرب تجنيس أفراد الجيش والشرطة بعدما تمّ إيقاف التجنيس في العام 1966، وهو ما أدى إلى أن يبني العسكريون منهم حينذاك وأبناؤهم من بعدهم آمالا عريضة حول قرب تعديل أوضاعهم ونيلهم الجنسية الكويتية، وذلك إلى أن تغيّر النهج الحكومي في التعامل مع “البدون” في أواسط الثمانينيات وتمّ اعتماد سياسة الضغط المنهجي تحت ذريعة إجبارهم على الكشف عن جنسياتهم الحقيقة… وهي سياسة غير إنسانية؛ بل هي سياسة فاشلة، ويكفي دليلا على فشلها أنّ الغالبية الساحقة من “البدون” لا تزال متمسكة بوضعها.
باختصار، هناك تاريخ لقضية “البدون” يجب أن يُسلّط الضوء عليه، وهناك سياسات حكومية ساهمت تاريخيا في نمو القضية  ثم في تفاقمها وتعقيدها والمماطلة في حلّها، وهذا ما يجب أن يكون مادة للمحاكمة!

أضف تعليق

أضغط هنا لإضافة تعليق

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.