السياسة نتيجة… فما هو السبب؟
أنوار مرزوق الجويسري
الإنسان مدني بطبعه، يحتاج للعيش مع غيره و ليست له القدرة على الاكتفاء بذاته، من هذا المنطلق وجدت السياسة لتنظيم العلاقة المدنية ومدّها بالطرق و الوسائل السليمة و الآمنة، ولهذا السبب كان القدماء من العلماء والحكماء يربطون السياسة بالأخلاق و يُقرنونها بها، لأن المعاملات الإنسانية تستوجب الخلق كأساس ابتداء ووسيلة وصول، فمدنية الإنسان واجتماعيته الفطرية تحضه على الاتجاه للآخر، السعي إليه و الطلب منه، و تدفعه للتخلي عن بعض محبوباته ليكوّن علاقة أو يبني تعاوناً ليأخذ ويعطي بدوره، ليقدم أفضل ما يملك ويستفيد من أفضل ما يملكون، وكذلك الجماعات لكونها مجموعة أفراد، فكل الجماعات تحتاج لتعاونها مع الجماعات الأخرى ليكون لوجودها معنى و تأثيراً، و لولا النقيض لما وجد نقيضه، فالاختلاف كان من أول أسباب التجديد و البناء.
وتكملة على مفهوم السياسة الممتد من مدنية الإنسان ننظر في المفهوم قديماً في عصور الفلاسفة الفطاحل، فما كان ذلك المفهوم إلا نتاجاً لمعلومة مدنية الإنسان التي توصل لها الفلاسفة وأقرها المجتمع على مر الزمن، فالسياسة كانت أساس تنظيم العلاقات الكبرى والمصالح العظمى التي توفر الحياة الكريمة للناس ونتاج إنجازات تسهم في النهضة والتقدم للمجتمعات البشرية التي لا تفتأ تسعى للتطور وتندفع باتجاه الجديد.
إن عرضنا لمفهوم السياسة من هذا الجانب الفلسفي أو القديم من حيث التنظير يرجعنا للأصل الذي ابتعد عنه معظم السياسيين اليوم، فابتعدوا عن السياسة الحقيقية وغاية السياسة الحقيقية، فالعودة للأصول التاريخية تعيننا على تفسير الأحداث تفسيراً أعمق مما يعيد صياغة تفاعلنا معها وانفعالنا من خلالها، فالنظر للسياسية على أنها سبيل لقيام المجتمعات وقيام خلافة الإنسان التي تستوجب منه الإعمار والبذل ليكون الخليفة المستحق والمُحاسب، لا بد أن نعي بأن الاستخلاف فيه من الحمل العظيم ومن المسؤولية الأعظم، فالاستخلاف في الأرض تعميراً وعبادةً يجعل لوجود الإنسان غاية أعظم ولتجمّعه واجتماعه تأثير أكبر، لذلك نرى أن النبي عليه الصلاة و السلام حينما كان يحمل الرسالة والدعوة للناس كان بدوره يسعى لانتشالهم من ظلمات الجهل وكان يسعى لنشر وعي الاستخلاف الحقيقي الذي كان غائباً في تلك الفترة، لذلك احتاج النبي عليه الصلاة والسلام لقيام مجتمع على هذا الأساس ولتأسيس مجتمع و دولة ليبين للطرف الآخر واقعية رسالته وإمكانية تحقيقها، ولا قيام للدولة دون سياسة تُشكّل أطر التعامل بين قادتها وأفرادها وبين الدولة والأخرى، فكانت سياسة النبي من أوضح الصور التي تترجم لنا حقيقة السياسة والهدف منها، فكانت سياسته في نشر الرسالة، التحاور، فالتخيير، فالقوة المنضبطة بضوابط الخلق، ومن هنا نرى أساس تطبيق الأخلاق في السياسة وأهميتها.
إن السياسة التي نطمح لها في بلادنا هي سياسة استخلاف الإنسان ونهضته وسياسة التعاون للتكامل الذي لا وجود له دون الآخر، السياسة التي نحلم بها سياسة واقع، تحترم عقول البشر وتحترم إمكانياتهم وتعينهم على العطاء، تؤطر لهم مجالات البذل وتقسّم لهم مجالات الإنجاز، تفتح لهم آفاق المعرفة، بحيث يكون رجالات السياسة مثالا في الخلق والوعي والتفهم ومثالا لكيفية قيام المدنية السّوية والمستقرة.
أضف تعليق