كتاب سبر

الشريعة.. والانتخابات!

لا يشك مسلم في وجوب تحكيم شريعة الله سبحانه وتعالى، ولا يكمل إيمان المسلم إلا بالرضا والتسليم لأمر خالقه سبحانه، {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما}، ومن هنا كانت الدعوات الصادقة لتطبيق الشريعة الإسلامية تنبعث مع كل انتخابات، ليتم تذكير المسلمين بهذا الواجب الذي فرّط فيه الكثير منهم فهمًا وعملا.  
للأسف أصبحت قضية “تطبيق الشريعة” في بعض الأحيان عبارة عن شعار يستعمله بعض السياسيين للعب على عواطف الناس، واستغلال مشاعرهم الدينية الصادقة، دون أن يكون هناك فهمٌ واعٍ لحقائق الشريعة ومقاصدها وأولوياتها، ودون أن يكون هناك تصور واضح لآلية العمل لتطبيقها.. هذا الغموض والتعقيد جعل هذه القضية محل استغلال وعبث من أطراف متعددة، مع التأكيد على أن هناك أطرافا صادقة في دعوتها، لكنها ربما تفتقر للتصور السليم لهذه القضية بكل أبعادها.
 عند الدعوة لتطبيق الشريعة يجب استحضار أن مفهوم الشريعة مفهوم واسع، وعنوان عريض، تندرج تحته العديد من العناوين، فالجهود المبذولة في العمل الخيري والإغاثي بمختلف فروعه ومجالاته هو جزء من تطبيق الشريعة، وتعليم الدين وتدريسه، ونشر العلوم الشرعية هو جزء من إقامة الشريعة، ورعاية الشباب وتنشئتهم على معاني الخير والصلاح هو جزء من تطبيق الشريعة، وكف يد الظالمين، والانتصار للمظلومين، ومحاسبة الفاسدين، وصيانة أموال الأمة كل تلك أجزاء مهمة من الشريعة التي من الواجب تطبيقها، لذلك من الإجحاف في حق الشريعة  أن يتم حصر إقامتها في باب القوانين التي يتم تشريعها أو تعديلها في البرلمان، وإن كانت مهمة، لكن أهميتها يجب أن لا تصرفنا عن مجالات أخرى لا تقل أهمية وهي في متناول أيدينا جميعا، لذلك من الضروري أن نفهم الشريعة وفق هذا المنظور الأوسع والأرحب، والذي يجعل لكل فرد من الأمة دورا في تطبيق الشريعة، ويتحمل جزءا من مسؤولية ذلك، بدلا من الاكتفاء بمطالبة السياسيين بهذا الواجب.
وإذا أردنا أن نتحدث عن الخطوات العملية لإقامة الشريعة بمفهومها القانوني والسلطاني، فيجب أولا تحديد النقطة التي يجب البدء منها، والارتكاز عليها، والانطلاق من خلالها، والتي تتمثل في إعادة الاعتبار لدور الأمة وتقوية جانبها التي خاطبها الله تعالى في كتابه ووجّه إليها التكاليف، وحمّلها الأمانة {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا، والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} فالأمة هي المخاطَبة بالدرجة الأولى لإقامة الدين، وذلك واضح في كتاب الله تعالى في الآيات الكثيرة التي يتصدرها الخطاب بـ {يا أيها الذين آمنوا..} ، والتي عبّر عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد أحد الأشخاص أن يفتئت على حق الأمة في اختيار الخليفة، فقال عمر: “إني لقائم العَشيّة في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم” فالأمة هي مقدمة الدولة المسلمة وأساسها ومصدرها، لذلك فإن الواجب هو العمل على بسط سلطانها، وإزالة الموانع التي تحول بينها وبين العمل على تحقيق إرادتها الصادقة في تطبيق الشريعة، وبذلك يكون أي جهد يُبذل من أجل تقوية إرادة الأمة المسلمة، وتعزيز سلطانها هو من الجهد المبذول لتطبيق الشريعة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا كانت العبادات الفردية بحاجة إلى شروط يجب توافرها في المُكلّف وفي الزمن وفي المحل حتى تقام العبادة على أكمل وجه، فإن تطبيق الشريعة بكاملها يحتاج أيضا إلى شروط يجب أن تتوافر في الأمة حتى تكون أهلا لإقامة هذا الدين، فإذا كانت الأمة مسلوبة الإرادة في اختيار من يدير شؤونها، فعليها أولا أن تُحرر تلك الإرادة، حتى تتمكن من إعمال الشريعة في الواقع، وإلا فستكون الشريعة ألعوبة في أيدي السلطة.
إن الأمة المستعبَدة والذليلة ومسلوبة الإرادة ومنتَهكة الحقوق، لا يمكن أن تقيم دينا أو تَعمُر دنيا، لذلك فإن واجبها الشرعي الأول أن تستجمع قوتها، وتأخذ بأسباب التمكين، وتحرر إرادتها، وتبسط سلطانها، وتحطم القيود التي فُرضت عليها، حتى تكون مؤهلة لحمل رسالة الإسلام، وإقامة تعاليمه… والله غالبٌ على أمره!