آراؤهم

تقديس الكلمات

في عصر جاهلية العرب كان الجهل سيد الناس وقائدهم، بل لا تكاد تجد في الجزيرة العربية كلها من يقرأ ويكتب، عاش أهل الجاهلية على عادات وتقاليد كان لمحدودية تفكيرهم أثر واضحٌ فيها، فتغيرت مسميات الأشياء بحسب ما يمليه العقل الخالي من العلم عليهم، فالسرقة صارت بطولة وقيام حرب لمدة أربعين عاماً صار من الفخر واستعباد الناس وأكل أموالهم من مراتب قوة القبيلة وكلمة وجهاء القوم
وسُراتهم قسم لا يُحنث والحوار بعد قول الزعيم محرّم.
بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فأسس قواعد الدين والدولة ونقل العرب من عالم الجهل إلى عالم التقدم والحضارة، فدعى للمساواة بين الناس وحث على العلم، وحرّم السرقة والربا ووجه جهود العرب لنشر الدين ونجحت الدعوة الإسلامية في تأصيل الاعتقاد داخل نفوس هؤلاء البدو، فتغير حالهم وعندما بدأت جيوش الإسلام تزحف على بلاد فارس طلب رستم قائد الفرس من ربعي بن عامر رسول سعد بن أبي وقاص أن يرجع العرب إلى جزيرتهم مقابل أموالٍ يعطونها لهم كما جرت الأمور من قبل!
جواب ربعي بن عامر كان جواب من انتقل من جاهلية العرب إلى نور الإسلام، فقال”جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام”
يخرج الناس من عبادة العباد من عبادتهم بالجسد وعبادة عقول هؤلاء الناس للأفكار التي يطرحها الرموز وإخراجهم لا يكون بالقتال والقتل فقط، إنما بالعلم والمعرفة؛ فالإسلام دعا للعلم والحوار حتى مع الرموز وموقف سيدنا عمر بن الخطاب يوم حدد مهر الزواج فناقشته المرأة ونزل عند رأيها لما رأى قوة حجتها!
أما أوربا فانتقالها لعصور الظلام عندما نقلت الكنيسة الناس من العلم إلى الجهل وجعلت القراءة والكتابة خاصةٌ للقساوسة فصاروا هم كل شيء وعندها فرضوا على الناس آراءهم ومعتقداتهم حتى وصل الحال بالناس إلى أن يشتروا صكوك الغفران موقعةً من الدكاكين، السؤال المهم لماذا لم يستخدم الناس عقولهم في تلك الفترة؟
التقديس هو السبب؛ صارت كلمة القس أو الأمير أو الملك كلمة مقدسة لا يملك نقاشها أو التفكير فيها، بل تنفيذها دون وعي، ولأن العقول مغيبة صارت مهمة هؤلاء سهلة يسيرة، بل زاد الأمر فوصل لدرجة أن كل أمور الدنيا والآخرة بيد هؤلاء، وحقيقة الأمر أن الصراع بين أصحاب الكلمات المقدسة صراع مصلحي بحت على مواطن النفوذ.
اليوم نعيش في عالمنا العربي هذه الإشكالية، فنحن بين تقديس رجال الدين لدرجة التقليد الأعمى وتقديس السياسيين والدفاع المستميت عنهم دون تفكير، بل وصلت مرحلة التقديس وللأسف للفنانين واللاعبين، فكل ما يقول الرمز صحيح؛ لأنه مقدس في نظرنا ولا نُفكر فيه؛ لأن تفكيرنا بحد ذاته من الآثام أما الدفاع عن رأيه الذي يحتمل الصواب والخطأ فمن الفروض التي لا تترك.
هذه المشكلة نقلتنا نحو تخوين كل من يمس أحد رموزنا المقدسة، بل مهاجمته شخصياً، إن كانت حجته قوية، فصارت الحجة تقابل بالفضيحة، فيبحث الأتباع عن أي شيء يمكنه صرف نظرهم عن الخلل الذي أصاب عالمهم أو أميرهم، وينتقل الحوار من صراع العلم والحجة إلى شخصانية مقيتة.
ويحتاج الناس لصدمةٍ حتى يستفيقوا، ولعل موقف شيوخ الطرق الصوفية من غزو نابليون للاسكندرية عندما نزل الفرنسيس ميناء الأسكندرية تسلح الناس بالعصي والسيوف ووضعوا شيوخ الطرق الصوفية والمجاذيب والمجانين في الخطوط الأمامية للمعركة حتى يُنزل الله عذابه على نابليون وجنوده بسبب بركة هؤلاء، لكن هذا الاعتقاد ولى مدبراً، ولم يعقب عند أول قذيفة من مدفعية السفن الفرنسية!
جميل أن يكون لنا رمز والأجمل أن نفكر في كلمات هذا الرمز، بل والبحث عن صحة حجته ونقاشه فيها؛ فإن وجدتم نفوراً من هذا الرمز فاعلموا أنه من عرب الجاهلية أو قساوسة وبابوات العصور المظلمة في أوربا أو ربما طبل أجوف يصدر أصواتا عالية؛ ليرعبكم وكل ما عليكم فعله إبطال سحره بالحجة والبرهان.