أقلامهم

بثينة العيسى: أيّ ثقافة نعيشها أرادت تحويل سور الكويت من رمز جميل إلى جدار عنصري؟

خصصت الكاتبة والروائية بثينة العيسى مقالها اليوم للحديث عن ثقافة الإقصاء المتفشية في المجتمع.. تلك التي أرادت تحويل سور الكويت من رمز جميل إلى جدار عنصري لتقسيم البشر، جانحة في حديثها إلى (محمد الجويهل) من دون تسميته وخطابه في آخر ندواته الانتخابية حين وجه إهانة إلى فئة من المجتمع ثم لحق تلك الإهانة وابل من الضحك والاستحسان والتصفيق.. متسائلة: على ماذا يصفق هؤلاء؟ وبأي شيء يبتهجون؟ ثم وجهت في نهاية المقال دعوة إلى تشخيص سليم لما يتسرطن في جسد الوطن من أمراض ثقافية.. وهنا المقال:

من أين يهدر كل هذا الصفيق؟

بثينة العيسى

من أين يهدرُ كلّ هذا التصفيق، وعلى أيّ شيء؟
هكذا كنتُ أتساءل- مثل كثيرين- وأنا أتفرّج على مقطع فيديو للندوة التي قام من خلالها مرشح برلماني بتوجيه إهانة إلى فئة من فئات المجتمع الكويتي، ثم لحق تلك الإهانة «رغم سوقيتها» وابل من الضحك والتصفيق والاستحسان. كان مشهداً غريباً وغير مفهوم، فعلى ماذا يصفق هؤلاء؟ وبأي شيء يبتهجون؟
أعتقدُ بأن هذا هو السؤال الأهم والأكثر جوهرية في الموضوع، وهو السؤال الذي وإن بدا سياسياً من الظاهر، إلا أن له منبعه الثقافي بكل تأكيد.. فما الذي يجعل 13 ألف شخص- على حسب إحدى الإحصائيات التي بثتها بعض القنوات الفضائية – يعمدون إلى التصفيق والتهليل لخطاب كراهية صريح تردّده وسائل الإعلام بكلّ أريحية اخيرا تحت اسم حريّة التعبير؟ ما الذي يجعل هذا الكمّ الهائل من الأشخاص يستحسن «على هذا النّحو» إهانة فئة أو قبيلة أو طائفة أو أي شريحة من شرائح المجتمع ومكوّن أساسي في تشكيل هويّته؟
ثم… ما الذي جعل هذا الخطاب يستمرّ على مدى خمس أو ست سنوات، مكرّساً فكره العنصري الرخيص، بما يقسّم المجتمع والبشر والإنسان إلى داخل وخارج، أصيل وغير أصيل، حقيقي ومزيّف، كويتي و«طرثوث» أو أياً كانت الاصطلاحات المؤذية والجارحة التي بتنا نسمعها بكثرة أخيراً.
وأيّ ثقافةٍ عنصرية هذه، التي أرادت تحويل سور الكويت، من رمز جميل يدل على اللحمة والتآزر، إلى جدار عنصري لتمييز وتقسيم البشر، وإلصاق عناوين ولافتات عليهم بما يصادر إنسانيتهم وحقوقهم الكاملة؟
إن ثقافة رفض الآخر وإقصائه وطرده من جغرافيا معيّنة، أو حتى ثقافة تسمية الآخر وعنونته ووضع لافتة على جبينه لتصنيفه إلى هذا النوع، أو ذاك النوع، هي ثقافة مريضة وموصومة بالعنصرية، تحت مسمّيات برّاقة كالوطنية، وتحت لافتاتٍ خداعة مثل «الكويت للكويتيين»… يتم من خلالها تقويض أي نوع من الاختلاف والتعدد المطلوب والضروري والطبيعي في أي مجتمع. الثقافة التي سمحت باستهداف هذه الفئة اليوم، سوف تسمح باستهداف الفئة الأخرى غداً… وبشكل ممنهج ومقصود سوف يتم «تنتيف ريش» المجتمع وخلع أجنحته وقتله. نعم قتله لأن المجتمعات الحقيقية والفاعلة والمؤثرة في مسيرة تقدّم العالم لابدّ وأن تكون مبنية على التعدد وقائمة على احترام الاختلاف واحتوائه والاحتفاء به.
والمخيف في وجود هكذا فكر، واضح أنه مكرّس وحيوي وفاعل ومؤثر، هو أنه يخلع عنا إنسانيّتنا في الوقتِ الذي نقوم فيه بتصنيف الآخر ومصادرة إنسانيته وحقوقه واختلافه، وهو ما يحدث تقريباً… فلدينا اليوم مجتمع مستعد لأن يصفق طويلاً لشتم فئة وطائفة وقبيلة وعائلة ومنطقة، ويتحسّس من تجنيس 34 ألف إنسان «بدون» مستحق، ولا «يغضب» ولو لثانية واحدة على إهدار حقوق عشرات الآلاف من الأشخاص طوال خمسين عاماً، غير مكترث لحقيقة أننا نسرق العمر منهم وأن الحياة لا تعوّض.
«إن تسمية الأشياء بأسمائها فعلٌ واجب وشجاع»… كما يقول الصحافي السعودي علي الظفيري، وأعتقدُ بأن خلاصنا كمجتمع، من أمراض العنصرية ورفض الآخر وثقافة الإقصاء… يبدأ من هنا، من تسمية الأشياء بأسمائها، فما يحدث على الساحة اليوم هو تكريس للعنصرية وليس صيانة للوطن، وهو خطاب كراهية وليس حرية تعبير، وهو ثقافة إقصائية وليس ثقافة حوار واحترام للاختلاف والتعدّد، تشخيصنا «السليم» لما يتسرطن في جسدِ الوطن من أمراض ثقافية كهذه هو أوّل الخلاص، وهو الدور الذي ينبغي أن ينهض به المثقف بصفته حارساً للقيم وقيّما على الجمال وحامياً للإنسانية.